الفصل الثاني
(من الإصحاح التاسع إلى السادس عشر)
«وذهب أبيمالك بن يربعل إلى شكيم إلى اخوة أمهِ، وكلمهم وجميع عشيرة بيت أبي أمهِ قائلاً: تكلوا الآن في آذان جميع أهل شكيم أيُّما هو خيرٌ لكم أَأَن يتسلط عليكم سبعون رجلاً جميع بني يربعل؟ أم أن يتسلط عليكم رجل واحد؟ واذكروا أني أنا عظمكم ولحمكم. فتكلم اخوة أمهِ عنهُ في آذان كل أهل شكيم بجميع هذا الكلام، فمال قلبهم وراءَ أبيمالك؛ لأنهم قالوا أخونا هو، وأعطوهُ سبعين شاقل فضة من بيت بعل بريث، فاستأجر بها أبيمالك رجالاً بطالين طائشين فسعوا ورائَهُ، ثم جاءَ إلى بيت أبيهِ في عفرة وقتل اخوتهُ بني يربعل سبعين رجلاً عَلَى حجرٍ واحد، وبقي يوثام بن يربعل الأصغر لأنهُ اختبأْ، فاجتمع جميع أهل شكيم وكل سكان القلعة، وذهبوا وجعلوا أبيمالك ملكاً عند بلوطة النصب الذي في شكيم» (قضاة 1:9-6)
يوجد فرق عظيم بين القوة لإجراءِ الأعمال الظاهرة وبين القوة الداخلية الأدبية لضبط الذات وإحسان السلوك. الله يقدر أن يلّبس أيّاً شاءَ قوة لقهر أعدائهِ مهما كانت صفاتهُ الشخصية كما عمل بأبيمالك بن سرّية جدعون، فإنهُ انتهز فرصةً بواسطة شهرة أبيهِ ليجعل نفسهُ متسلطاً عَلَى إسرائيل، وأخذ من أيديهم سبعين شاقل فضة من بيت بعل بريث، واستأجر بها رجالاً بطالين طائشين فصار لهم قائدا،ً ولما تمكن سلطانهُ قتل جميع أبناءِ أبيهِ سوى يوثام، فلم يكن مفتكراً في خير إسرائيل بقدر ما كان مفتكراً في مجد نفسهِ، ولم يذكر صيت أبيهِ الحسن إلاَّ واسطة لرفع ذاتهِ.
«وأخبروا يوثام فذهب ووقف عَلَى رأس جبل جرزّيم، ورفع صوتهُ ونادى وقال لهم: اسمعوا لي يا أهل شكيم يسمع لكم الله، مرة ذهبت الأشجار لتمسح عليها ملكاً، فقالت للزيتونة املكي علينا، فقالت لها الزيتونة: أاترك دهني الذي بهِ يكرمون بي الله والناس وأذهب لكي أملك عَلَى الأشجار؟ ثم قالت الأشجار للتينة: تعالي أنتِ واملكي علينا، فقالت لها التينة: أاترك حلاوتي وثمري الطيب وأذهب لكي أملك عَلَى الأشجار؟ فقالت الأشجار للكرمة: تعالي أنتِ واملكي علينا فقالت لها الكرمة أاترك مسطاري الذي يفرّح الله والناس وأذهب لكي أملك عَلَى الأشجار؟ ثم قالت جميع الأشجار للعوسج: تعال أنت واملك علينا، فقال العوسج للأشجار: إن كنتم بالحق تمسحونني عليكم ملكاً فتعالوا واحتموا تحت ظلي، وإلاَّ فتخرج نارٌ من العوسج وتأكل أرز لبنان، فالآن إن كنتم قد عملتم بالحق والصحة إذ جعلتم أبيمالك ملكاً، وإن كنتم قد فعلتم خيراً مع يربعل ومع بيتهِ وإن كنتم قد فعلتم لهُ حسب عمل يديه، لأن أبي قد حارب عنكم وخاطر بنفسهِ وأنقذكم من يد مديان، وأنتم قد قمتم اليوم عَلَى بيت أبي وقتلتم بنيهِ سبعين رجل عَلَى حجرٍ واحد، وملكتم أبيمالك ابن أمتهِ عَلَى شكيم لأنهُ أخوكم، فإن كنتم قد عملتم بالحق والصحة مع يربعل ومع بيتهِ في هذا اليوم فافرحوا أنتم بأبيمالك وليفرح هو أيضاً بكم، وإلاَّ فتخرج نارٌ من أبيمالك وتأكل أهل شكيم وسكان القلعة، وتخرج نار من أهل شكيم ومن سكان القلعة وتأكل أبيمالك. ثم هرب يوثام وفرَّ وذهب إلى بير وأقام هناك من وجه أبيمالك أخيهِ» (قضاة 7:9-21)
أظهر يوثام حكمةً وفطنةً بمثلهِ هذا، فإنهُ علم أنهُ لا يليق بأن واحداً يتسلط عَلَى شعب الله؛ لأن الله كان ملكهم. الأشجار الجيدة المثمرة عبارة عن الرجال الصالحين الذين لم يشأْ أحد منهم أن يترك أشغالهُ الواجبة ويتعرض لما لا يعنيهِ، وأما العوسج العديم النفع فلم يأْبَ أن يكون ملكاً، ولكن عَلَى شرط أنهُ يتسلط تسلطاً مطلقاً وتظم بكلامهِ بقدر ما كان مفتخر القلب وعديم النفع، وصدق ذلك تماماً عَلَى أبيمالك. ثم صرح يوثام بما لا بدَّ أن ينتج لهُ ولرجال أفرايم من النتائج المرَّة وتمَّ كلامهُ هذا فيهم بعد قليل، إذ حصدوا ما زرعوه. أنظر(قضاة 22:9-57) فإن أبيمالك مات ولكن ميتة مهينة جدًّا لمن يفتخر ببأسهِ وبسالتهِ، إذ طرحت امرأة رحىً عَلَى رأسهِ فشجَّت جمجمتهُ، فردَّ الله شرَّ أبيمالك الذي فعلهُ ببيت أبيهِ لقتلهِ اخوتهُ السبعين، وكل شر أهل شكيم رده الله عَلَى رؤُوسهم وأتت عليهم لعنة يوثام بن يربعل. من جهة دعوتنا نحن فلا يجوز لنا أن نلعن الناس؛ لأن الله قد دعانا للبركة، ولكن مع كل ذلك لم يترك الله زمام السياسة للعالم، ولم يكف القول عن كونهِ صادقاً، من يرتفع يتضع.
«وقام بعد أبيمالك لتخليص إسرائيل تولع…الخ»( قضاة 1:10-16) فيبان أن تولع ويائير القاضيين المذكورين هنا لم ينفعا إسرائيل كثيراً؛ لأن إسرائيل استمروا عَلَى عبادة الآلهة الغريبة فتضايقوا جدًّا من أعدائهم حتى قِيلَ عن الرب أن نفسهُ ضاقت بسبب مشقة إسرائيل، فشرع حينئذٍ من شفقتهِ بإقامة مخلّص آخر ليخلصهم (عدد 17و18)
«وكان يفتاح الجلعادي جبار بأْس وهو ابن امرأة زانية، وجلعاد ولد يفتاح، ثم ولدت امرأة جلعاد لهُ بنين، فلما كبر بنو المرأة طردوا يفتاح وقالوا لهُ: لا ترث في بيت أبينا؛ لأنك أنت ابن امرأة أُخرى. فهرب يفتاح من وجه اخوتهِ وأقام في أرض طوب، فاجتمع إلى يفتاح رجال بطالون وكانوا يخرجون معهُ» (قضاة 1:11-3)
فنرى في يفتاح ما سبقنا فقلناه عن صفات اللذين شاءَ الرب أن يستخدمهم لتخليص إسرائيل بحيث أن صفاتهم الأدبية توافق أحوال إسرائيل بالنظر إلى كونهم قد ابتعدوا عن الرب. كان أبيمالك بن جدعون ابناً من سرية، وأما يفتاح هذا فكان ابن امرأة زانية، ولما طردهُ أولاد أبيهِ صار رئيس غزاة وعاش بسيفهِ، ولكن هكذا شاء الرب، ولا شك أنهُ استخدم أشخاصاً معيبين هكذا لكي يظهر ليس لطفهُ لشعبهِ فقط بل حكمهُ عَلَى حالتهم الأدبية أيضاً.
«وكان بعد أيام أن بني عمون حاربوا إسرائيل، ولما حارب بنو عمون إسرائيل ذهب شيوخ جلعاد ليأتوا بيفتاح من أرض طوب، وقالوا ليفتاح: تعال وكن لنا قائداً فنحارب بني عمون. فقال يفتاح لشيوخ جلعاد: أما أبغضتموني أنتم وطردتموني من بيت أبي، فلماذا أتيتم إليَّ الآن إذ تضايقتم؟…الخ» (قضاة 4:11-11)
فيبان من هذه المحاورة بينهُ وبين شيوخ جلعاد أنهُ كان إنساناً عاقلاً وقلبهُ عَلَى شعب الله، ولم يكن من المستعبدين للآلهة الغريبة؛ لأنهُ آمن بأن الرب قادرٌ أن يدفع الأعداء في يدهِ. وبعد قطع العهد مع الشيوخ ذهب بهم وتكلم بكلام العهد أمام الرب في المصفاة.
«فأرسل يفتاح رسلاً إلى ملك بني عمون يقول: ما لي ولك إنك أتيت إليَّ للمحاربة في أرضي…الخ» (قضاة 12:11-28). كان بنو عمون من ذرّية لوط، ولم يسمح الله لإسرائيل بأن يحاربوهم ويأخذوا أرضهم وقت صعودهم من مصر، وذلك بسبب القرابة التي كانت بين إبراهيم ولوط وبين نسليهما، ولكن بعد ثلاث مائة سنة أتى ملك بني عمون واستغنم الفرصة بسبب ضعف إسرائيل ليأْخذ منهم بعض الأراضي شرقي الأردن، زاعماً أنها كانت لبني عمون أصلاً، فجاوبهُ يفتاح بالصواب أن إسرائيل لم يأخذوها من يد بني عمون بل من الأموريين وذلك حسب أمر الرب وكان يجب عَلَى ملك عمون أن يكتفي بالأرض التي كانت لهُ من كموش إلههم ويترك إسرائيل ممتلكين الأرض التي كانت لهم من الرب إلههم، ولكنهُ لم يسمع لكلام يفتاح وإذ ذاك سلَّم يفتاح القضاء للرب قائلاً: ليقض الرب القاضي اليوم بين بني إسرائيل وبني عمون، فلم يبادر يفتاح إلى الحرب حتى أظهر أن الحق معهُ حسب كلمة الله، ولم يشأْ أن يعمل شيئاً مخالفاً لحقوق القرابة بين إسرائيل وبني عمون.
فكان روح الرب عَلَى يفتاح، فعبر جلعاد ومنسى وعبر مصفاة جلعاد ومن مصفاة جلعاد عبر إلى بني عمون، ونذر يفتاح نذراً للرب قائلاً: إن دفعت بني عمون ليدي فالخارج الذي يخرج من أبواب بيتي للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند بني عمون يكون للرب وأصعدهُ محرقةً. ثم عبر يفتاح إلى بني عمون لمحاربتهم، فدفعهم الرب ليدهِ، فضربهم من عروعير إلى مجيئك إلى منّيت عشرين مدينة وإلى آبل الكروم ضربة عظيمة جدًّا، فذلَّ بنو عمون أمام بني إسرائيل.
«ثم أتى يفتاح إلى المصفاة إلى بيتهِ، وإذ بابنتهِ خارجة للقائهِ بدفوف ورقص وهي وحيدة لم يكن لهُ ابن ولا ابنة غيرها، وكان لما رآها أنهُ مزَّق ثيابهُ وقال: آه يا بنتي قد أحزنتِني حزناً وصرتِ بين مكدّريَّ؛ لأني قد فتحت فمي إلى الرب ولا يمكنني الرجوع. فقالت لهُ: يا أبي هل فتحت فاك إلى الرب؟ فافعل بي كما خرج من فيك بما أن الرب قد انتقم لك من أعدائك بني عمون. ثم قالت لأبيها: فليفعل لي هذا الأمر، اتركني شهرين فأذهب وانزل عَلَى الجبال وأبكي عذراويتي أنا وصاحباتي. فقال: اذهبي، وأرسلها إلى شهرين فذهبت هي وصاحباتها وبكت عذراويتها عَلَى الجبال، وكان عند نهاية الشهرين أنها رجعت إلى أبيها ففعل بها نذرهُ الذي نذر وهي لم تعرف رجلاً، فصارت عادة في إسرائيل أن بنات إسرائيل يذهبنَ من سنة إلى سنة لينحن عَلَى بنت يفتاح الجلعادي أربعة أيام في السنة» (قضاة 29:11-40). كان يفتاح من الذين اشتهروا بالإيمان ولكن ظهر فيهِ الضعف الإنساني خصوصاً من جهة النذر الذي نذرهُ للرب؛ لأنهُ لم يكن ضرورياً لهُ وعدا دلك أنتج لهُ عواقب مرّة فيما بعد. الإنسان وإن كان مستخدماً كآلة في يد الله فهو ضعيف، وإن عمل عملاً ما من قوتهِ أو حكمتهِ لا بد أن يغلط. لم يكن الرب قد طلب من يفتاح أو من غيرهِ أن ينذر لهُ نذراً شرطاً ناموسياً لإنقاذه شعبهُ من يد أعدائهم، كان مسموحاً لبني إسرائيل أن ينذروا نذوراً تبرعية، وقد وضع الله قوانين مخصوصة لذلك، ولكن نذر يفتاح هذا كان أعمى مطلقاً ليس حسب القوانين ولا في وقت مناسب إذ قال: إن دفعت بني عمون ليدي فالخارج الذي يخرج من أبواب بيتي للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند بني عمون يكون للرب وأصعدهُ محرقةً، فلم يكن لزوم لهذا النذر ولا لخلافهِ؛ لأن الربح كان قد ألبسهُ قوةً وليس عليهِ إلاَّ أن يتقدم للقتال واثقاً بأن الرب يدفع بني عمون في يدهِ، ولو لم يكن محمولاً من طياشتهِ لما نطق بنذرٍ كهذا، فأنهُ كان من المرجح أن واحداً من عائلتهِ يخرج للقائهِ لا شيئاً من الحيوانات المناسبة لمحرقة وهكذا صار، خرجت ابنتهُ الوحيدة فحزن يفتاح وتكدَّر جداً ومع ذلك كلهِ عمل معها حسب نذرهِ. لا شك أنهُ أصعدها محرقةً، قد اجتهد البعض أن يلطفوا هذهِ المسألة المحزنة إذ قالوا أن واو العطف يحتمل أن يكون في الأصل أو، وإذ ذاك يكون قول يفتاح "فالخارج الذي يخرج من أبواب بيتي يكون للرب أو أصعدهُ محرقةً" ولكن لا يوجد دليل يقتضي هذا التغيير. أقول أولاً أن النذر في أصلهِ لم يكن حسب إرادة الله، ولا حسب قوانين النذور. وثانياً إتمامهُ لم يكن مرضياً للرب. حاشا وكلاَّ لأنهُ تعالى لم يطلب ذبائح بشرية. ثالثاً إن سئلَ كيف حدث أن واحداً مثل يفتاح يتجرَّأ ويقدم محرقةً كهذه أقول: إن كان أحد يترك كلمة الله لا توجد ورطة من الضلال إلاَّ ويمكنهُ أن يسقط فيها. وكان يفتاح وأفضل رجال إسرائيل بعيدين عن كلمة الله والسلوك حسب ترتيبهِ الأصلي، وكانت أفكارهم قد فسدت كثيراً من معاشرة الكنعانيين جيرانهم الذين كانوا معتادين أن يذبحوا أولادهم عبادةً لآلهتهم، وتمكنت هذه العادة الفظيعة بين بني إسرائيل كما سيبان فيما بعد، حتى في أيام ملوكهم إذ كان عندهم نور أكثر مما كان في أيام يفتاح الكتاب المقدس يذكر تاريخ إسرائيل كما هو حتى زلاَّت المؤْمنين، ولا يتكفل بأن الذين شاء الرب أن يستخدمهم كانوا معصومين من الخطأِ بل بالعكس يشهر كثيراً من عيوبهم، ويظهر لنا في حادثة هذا النذر الأعمى ما هي العواقب المرّة الناتجة من الحيدان عن كلمة الرب ومن التجاسر في أمورهِ. لم يشأ الله أن يذكر إتمام النذر بالتفصيل، بل إنما يقول: ففعل بها نذرهُ الذي نذر. كان النذر بدون الله واتمامهُ كذلك، ولم يكن من الأمور اللائقة بالوحي أن يطيل الشرح عَلَى حادثة مكروهة عند الله كهذه.
«واجتمع رجال أفرايم وعبروا إلى جهة الشمال وقالوا ليفتاح: لماذا عبرت لمحاربة بني عمون ولم تدعُنا للذهاب معك؟ نحرق بيتك عليك. فقال لهم يفتاح: صاحب خصام شديد كنت أنا وشعبي مع بني عمون، وناديتكم فلم تخلصوني من يدهم، ولما رأيت أنكم لا تخلصوني وضعت نفسي في يدي وعبرت إلى بني عمون فدفعهم الرب ليدي، فلماذا صعدتم عليَّ اليوم هذا لمحاربتي؟ وجمع يفتاح كلَّ رجال جلعاد وحارب أفرايم لأنهم قالوا أنهم منفلتو أفرايم، جلعاد بين أفرايم ومنسى، فأخذ الجلعاديون مخاوض الأردن لأفرايم، وكان إذ قال منفلتو أفرايم دعوني أعبر كان رجال جلعاد يقولون لهُ: أأنت أفرايمي فإن قال لا كانوا يقولون لهُ: قلْ إذاً شِبُّولَت فيقول: سبّولت ولم يتحفظ للفظ بحق، فكانوا يأخذونهُ ويذبحونهُ عَلَى مخاوض الأردن، فسقط في ذلك الوقت من أفرايم اثنان وأربعون ألفاً، وقضى يفتاح الإسرائيلي ست سنوات ومات يفتاح الجلعادي ودفن في إحدى مدن جلعاد» (قضاة 1:12-7) فأظهر رجال أفرايم الحسد والخصام كما في أيام جدعون، ولم يجاوبهم يفتاح جواباً ليناً ليلاطفهم كما عمل جدعون، وكانت النتيجة مرَّة جدًّا، ربما شرَّ رجال أفرايم كان قد كمل وسمح الرب بما صار قصاصاً لهم. وأسفاه عَلَى إسرائيل إذ قتل بعضهم البعض، وقد ظهر في يفتاح ما يظهر فينا بحيث نقدر أن نظهر الشجاعة في محاربة الأعداء أكثر من الوداعة لنحو اخوتنا.
«وقضى بعدهُ لإسرائيل أبصان من بيت لحم…الخ» (قضاة 8:12-15) يذكر هنا ثلاثة قضاة: أبصان، أيلون، وعبدون، ولم يحدث شيء يستحق الذكر في أيام قضائهم.
«ثم عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب فدفعهم الرب ليد الفلسطينيين أربعين سنة، وكان رجل من صرعة من عشيرة الدانيين اسمهُ منوح وامرأتهُ عاقر لم تلد، فتراءَى ملاك الرب للمرأَة وقال لها: ها أنتِ عاقر لم تلدي، ولكنكِ تحبلين وتلدين ابناً. والآن فاحذري ولا تشربي خمراً ولا مسكراً ولا تأكلي شيئاً نجساً، فها إنكِ تحبلين وتلدين ابناً ولا يعلُ موسى رأسهُ؛ لأن الصبي نذيراً لله من البطن وهو يبدأُ يخلص إسرائيل من يد الفلسطينيين» (قضاة 1:13-5)
نرى في هذا الإصحاح ولادة شمشون الشهير الذي أقامهُ الله ليخلص لإسرائيل من يد الفلسطينيين، وكان مختلفاً عن القضاة الآخرين لكونهِ نذيراً للرب أي مفروزاً لهُ قبل ولادتهِ، وكان ذلك دلالة عَلَى سوءِ حالة إسرائيل أدبياً وابتعادهم عن الله. كان قانون النذير في إسرائيل أن يفرز ذاتهُ للرب إلى وقت معين، وأما شمشون فكان نذيراً فوق القانون إذ كان مفرزاً للرب كل حياتهِ، ولكن أي نذير كان شمشون؟ فإنهُ كان مخصصاً خارجياً فقط وأما في الداخل فكان أضعف الضعفاءِ أدبياً وتاريخهُ غريب جداً ومحزن للغاية، وقوتهُ الجسدية الفائقة لم تساعدهُ لضبط شهواتهِ، ولم يكن من جميع المخلصين الذين أقامتهم نعمة الله أحد أقوى منهُ جسداً وأضعف منهُ أدباً، وقد ارتكب شروراً مهينة ومعيبة لرجل إسرائيلي عامي ليس بمنصب، وأما شمشون هذا الذي كان نذيراً من بطن أمهِ وهو آخر القضاة المذكورين فقد اجتمعت فيهِ القوة الجسدية والضعف الأدبي إلى أعظم درجة.