خمائل الطيب: تفسير نشيد الأنشاد
ص 1، آية 16
16-"ها أنت جميل يا حبيبي وحلو وسريرنا أخضر"
لقد كان العريس هو البادئ في مخاطبة عروسه بهذا القول "ها أنت جميلة يا حبيبتي" فإذا ما وجدت فينا محبة وأشواق لشخصه المبارك فما هي إلا صدى محبته وأشواقه هو إلينا "نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولا" وكان العروس لم تجد لغة تعبر بها عن جمال عريسها أفضل من لغته التي تحدث هو بها إليها، وهذه نتيجة حتمية للشركة العميقة معه فأنها تكسبنا لهجته المقدسة ولغته السماوية "فلما رأوا مجاهرة بطرس ويوحنا ووجدوا أنهما إنسانان عديما العلم وعاميان تعجبوا فعرفوهما أنهما كانا مع يسوع"(أع4: 13) وهل يوجد بين لغات البشر والملائكة ما يوازي لغة رب المجد الذي أطلنا المكوث في حضرته والشركة معه تصير لغته لغتنا؟
ومن العجيب ان العروس بعد ان قال لها العريس "أنت جميلة" لم تنشغل بنفسها ولم تتأمل في ذاتها لترى ما فيها من جمال لان جماله هو كان مالكا لكل حواسها ومشاعرها. لقد سمعت بأذنيها إعجاب العريس بها، ولكنها لا تعلق على هذا الإعجاب بكلمة واحدة، فلا هي تتباهى بهذا الإعجاب ولا تقول بأنها ليست أهلا لذلك الحب، ذلك لأنها نسيت ذاتها ولم تفكر في نفسها، وهذا هو التواضع الصحيح، فقد نتحدث عن رداءتنا، وأننا لسنا جديرين بمحبة الله ونعمته ومع ذلك يكون القلب مملوءا كبرياء، وأما التواضع الصادق فلا يتحدث عن الذات سواء في صلاحها أو في رداءتها، لكنه درس عسير على النفس ان تتعلمه، أما ربنا يسوع المسيح فهو المثال الكامل، فقد وضع نفسه وأخذ المكان الأخير، ولئن كان آدم الأول قد رفع نفسه ومن ثم أتضع، فان آدم الأخير وضع نفسه فرفعه الله، ليتنا نتبعه ونتعلم منه فنجد راحة لنفوسنا "لان كل من يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفع"(لو18: 14).
ان جمال العروس لم يكن طبيعيا ولكنه مكتسب من جماله هو "ها أنت جميل يا حبيبي وحلو" فهو ليس جميلا فقط ولكنه حلو أيضا، وهذا ما لا تدركه إلا النفس التي ذاقت ان الرب طيب وصالح.
ما أحلى فادي الكريم نعم وما أطيبه
وكل قلب مستقيم من خيره يشبعه
إذا تأملنا في حياة ربنا المبارك وفي أمجاده الأدبية وتتبعنا كل خدمة من خدماته أو عمل من أعماله وكل كلمة من كلامه نجده كاملا في كل شيء. هذا ما يستطيع ان تتحققه النفس التي تعمقت في معرفته وتفرست في كمالاته وتلذذت بالشركة المقدسة معه والتأمل المستمر في صفاته المباركة وسجاياه الطاهرة. وما أكبر الفرق بين معرفته المعرفة الشخصية وبين المعرفة عنه، فالنفس التي تعرفت به تخاطبه مع العروس "ها أنت جميل يا حبيبي وحلو" _ "أنت أبرع جمالا من بني البشر" أما النفس التي لم تعرفه المعرفة الصحيحة فلا ترى فيه شيئا من الجمال. لقد كانت خيمة الاجتماع رمزا لإنسان الكامل ربنا يسوع المسيح _ الكلمة الذي صار جسدا وحل بيننا. فكل من دخل الخيمة ورأى ما احتوته من نفائس وكنوز ثمينة مبتدئا بمذبح النحاس الذي هو صورة لصليب ربنا يسوع المسيح والمرحضة النحاسية ثم المنارة الذهبية والمائدة ومذبح البخور الذهبي، ثم ما كان داخل قدس الأقداس أعني تابوت العهد وما احتواه _ هذه كلها أشياء تعلن أمجادا متنوعة وكمالات عديدة وجمالا باهرا لربنا المبارك. نعم ان كل من اكتحلت عيناه برؤية هذه النفائس فأنه يهتف مع المرنم قائلا: "ما أحلى مساكنك يا رب الجنود" (مز84) "واحدة سألت من الرب وإياها ألتمس ان أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي لكي أنظر إلى جمال الرب وأتفرس (فيه) في هيكله"(مز27) أما من مر على الخيمة من الخارج فلا يرى سوى جلود الكباش المحمرة وشعر المعزى التي لا شيء فيها من الجمال بحسب الظاهر، فكل من اكتشف ما في قلب الرب من حب وصلاح وصفات هي كمال الجمال لا بد ان تفيض قلبه بكلام صالح "أنت أبرع جمالا من بني البشر"(مز45: 2) أما النفس التي لم تعرف الرب المعرفة الصحيحة فأنها بالعكس لا ترى فيه جمالا قط. أنها تراه "كعرق من أرض يابسة. . لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فتشتهيه"(أش53) هذا لسان حال النفس التي لم تختبر جمال الرب ولم تذق حلاوته. هذا كان أيضا لسان حال اليهود حال وجود ملكهم في وسطهم فأنهم احتقروه وأستهزأوا به، فقد دعوه "ناصريا" أي محتقرا. "أليس هذا هو ابن النجار؟" _ "أنه ببعلزبول يخرج الشياطين". أما الذين عرفوه وتبعوه واختبروا محبته لهم وعنايته بهم وشبعوا بتعاليمه فقد قالوا له "يا رب إلى من نذهب. كلام الحياة الأبدية عندك. ونحن قد آمنا وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله الحي"(يو6: 68و 69).
* * *
ان كان العريس المبارك قد أتى إلى خاصته _ خراف بيت إسرائيل الضالة ولكن خاصته لم تقبله (يو1: 11) بل بالحري احتقروه واستهزأوا به ورفضوه. "وبأيدي آثمة صلبوه"، وكان لسان حالهم في عدم إيمانهم "لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فتشتهيه محتقر ومخذول من الناس. رجل أوجاع ومختبر الحزن وكمستر عنه وجوهنا محتقر فلم نعتد به"(أش53) ولكن تبارك اسم إلهنا فان دعوته وهباته هي بلا ندامة، فأنه سيجيء الوقت الذي فيه ترجع بقية منهم إلى الرب، وإذ يرجعون إليه بقلوبهم فعندئذ يرفع البرقع الموضوع على قلبهم، ومن ثم يعترفون بخطيتهم (كأمة) وسيكون لسان حالهم. "ونحن حسبناه مصابا مضروبا من الله ومذلولا، وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا. كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه أثم جميعنا"(أش53: 4-6) فذاك الذي رفضوه في أيام أتضارعه سيرونه في جلال مجده وملكه، ويرحبون به ويتوجونه ملكا عليهم، ويترنمون له قائلين: "أنت أبرع جمالا من بني البشر _ ها أنت جميل يا حبيبي وحلو".
* * *
"وسريرنا أخضر" ألا نرى في السرير رمزا جميلا للشركة الهادئة مع ربنا المبارك وراحة النفس الناشئة عن الوجود في القرب منه بمعزل عن ضجيج العالم "تعالوا أنتم منفردين إلى موضع خلاء واستريحوا قليلا"(مر6: 31) هذه هي الراحة الصحيحة التي نستطيع ان نظفر بها في عالم البؤس والشقاء، وما أحلى وأشهى الثمار التي تتمتع بها النفس الرابضة في حضرة الراعي المبارك، وهذا ما تشير إليه العروس بقولها سريرنا "أخضر" أنه "في مراع خضر يربضني وإلى مياه الراحة يوردني"(مز23) "وأما أنا فمثل زيتونة خضراء في بيت الله"(مز52:
.
حقا ما أجملك وما أحلاك أيها العريس المحبوب والراعي الصالح. هبنا ان نوجد في شركة دائمة معك فنشبع بك ومراعيها الدسمة ونرتوي من مياهك العذبة.
* * *
ثم لنلاحظ قول العروس "سريرنا" فهي لا تقول "سريري" لأنها لا تستطيع ان تتمتع بهدوء وهناء ولا براحة وسلام بدونه، كما أنها لا تقول "سريرك" ليقينها بان سروره ولذته في تمتع النفس به وتمتعه هو بالنفس "لذاتي مع بني آدم"(أم8: 31) ولكنها تقول "سريرنا" لان قربنا من الرب وشركتنا معه تنشيء سرورا متبادلا وشبعا مشتركا بيننا وبينه "أتعشى معه وهو معي"(رؤ3: 20) "يلذ له نشيدي وأنا أفرح بالرب"(مز104: 34) يثبت فرحي فيكم ويكمل فرحكم"(يو15: 11).