خمائل الطيب: تفسير نشيد الأنشاد
ص 1، آية 12
12-"ما دام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته"
ان المقصود بهذه العبارة هو "ما دام الملك جالسا أو متكئا على مائدته فالناردين الذي لي تنتشر رائحته الذكية" ( 1 )
هنا نرى مشهدا جديدا، أنه ليس مشهد الراعي وقطيعه (ع 7و
ولا هو مشهد الحرب والجهاد (ع 9) ولكن كان الروح القدس يأتي بنا إلى "قصور العاج" أو إلى الأقداس حيث نرى "الملك جالسا على مائدته" وهذا يقودنا بلا شك إلى الوصف الرائع لمائدة الملك سليمان "وكان طعام سليمان لليوم الواحد ثلاثين كر سميذ وستين كر دقيق وعشرة ثيران وعشرون ثورا من المراعي ومئة خروف ما عدا الأيائل والظباء واليحامير والإوز المسمن" وهذه الأطعمة الفاخرة كانت "للملك سليمان ولكل من تقدم إلى مائدة الملك سليمان" (1مل4: 22و 23و 27) وكان "طعام مائدته" من بين الأشياء التي أدهشت ملكة سبا حتى لم يبق فيها روح بعد (1مل10: 5). "وهوذا أعظم من سليمان ههنا". ان ربنا يسوع المسيح هو الملك الحقيقي "ملك الملوك ورب الأرباب" وفي أي وقت نقترب إليه ونلتف حوله كخاصته المحبوبة لقلبه نجده متكئا على مائدته مهيئا طعاما دسما لان "أمامه شبع سرور وفي يمينه نعم إلى الأبد"(مز16) ومع أننا نسير في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء، وفي قفز موحش "العالم الموضوع في الشرير" فأنه فيه "يرتب قدامنا مائدة تجاه مضايقينا" ولسان حاله في كل حين "هلموا تغدوا" (يو21: 12) فنأكل ونشبع ونرتوي "كما من شحم ودسم تشبع نفسي وبشفتي الابتهاج يسبحك فمي"(مز63: 5) نعم أننا إذ تتغذى نفوسنا به، في حضرته تفيض قلوبنا بأغاني الحمد والتسبيح وتنسكب عواطفنا سجودا وتعبدا له فتنتعش حاسياته برائحة الناردين الخالص والكثير الثمن "أغني للرب في حياتي. أرنم لإلهي ما دمت موجودا. فيلذ له نشيدي"(مز104: 33و 34).
وهل توجد مائدة أشهى وألذ من مائدة الملك العظيم؟ ان كل طعام آخر مهما كان شهيا في نظر الناس فهو بالمقابلة مع مائدة الملك رب المجد، كالخرنوب طعام الخنازير، أما مائدة الملك فلا مثيل لها ولا سيما لأنه بنفسه جالس عليها وبيمينه يقدم من أطايبها لخاصته المحبوبة. له المجد.
ان إنسان العالم لا يستطيع ان يتذوق أو يدرك قيمة هذه البركات التي أعدها الملك على. مائدته لأنها بركات روحية لها قيمتها الغالية لدى محبي الرب يسوع المسيح، ولكن "الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة"(أي لان أمور الله في نظره هي جهالة أو بالحري تافهة لا قيمة لها) ولا يقدر ان يعرفه لأنه أنما يحكم فيه روحيا (أي لا يقدر ان يعرف ما لروح الله لأنه أنما يدرك روحيا)(1كو2: 14و 15) فالإنسان الطبيعي يحتاج أولا إلى الولادة الجديدة _ الولادة الثانية من فوق حتى يتسنى له تذوق هذه البركات الروحية.
ان الشيء الوحيد الذي أستحوذ على تفكير العروس وشغل ذهنها وقلبها هو رؤيتها "الملك على مائدته" فشخصه هو الذي كان مائلا أمامها، والمائدة وما أعد عليها كانت لها قيمتها عندها لأنها مائدته هو، فليست البركات ولا شبع أشواق النفس والقلب، ولا الشركة الحبية مع الجالسين على المائدة هي التي كانت موضوع مشغوليتها وأنما الملك نفسه وليس سواه. ان البركات الروحية والشركة الحبية حلوة وجميلة ولكن متى أخذ هو _ تبارك اسمه _ مكانه في قلوبنا عندئذ ينسكب الطيب عند قدميه تعبدا له.
"أفاح نارديني رائحته"
ان كلمات العروس هذه تذكرنا لأول وهلة بما حدث في بيت عنيا بعد إقامة لعازر من الأموات (يو12: 1-
فقد عمل للرب يسوع عشاء هناك وكان لعازر أحد المتكئين وأما مرثا فكانت كعادتها تخدم، بينما كسرت مريم قارورة الطيب الخالص والكثير الثمن ودهنت به جسد الرب يسوع ( 1 ) .
ويعتبر لعازر صورة للمؤمنين الحقيقيين الذين صارت لهم شركة مع المسيح بعد ان أقيموا روحيا، كما ان مرثا تعتبر صورة للمؤمنين الذين لهم نشاطهم في خدمة الرب، أما مريم فأنها تعطينا صورة جميلة للقديسين الممتلئة قلوبهم عواطفهم محبة للرب والمكرسة له ولعبادته.
هذا ما عملته مريم أخت مرثا ولعازر فأنها تميزت بالجلوس عند قدمي الرب لتسمع كلامه، وإذ تعلمت منه وشبعت بأقوال النعمة الخارجة من فمه هان عليها ان تسكب ذلك الناردين النقي على قدمي المخلص المبارك حتى امتلأ البيت من رائحة الطيب. لقد ظن البعض وفي مقدمتهم يهوذا الأسخريوطي ان هذا كان إتلافا، ولا ريب في ان ذلك الطيب كان من ناردين خالص كثير الثمن، ولو أنه سكب على غير قدمي الرب لكان ذلك في الحقيقة إتلافا، ولكن إذ سكبته على قدمي المخلص العزيز فقد سجل لها بفمه الكريم بأنها "عملت ما عندها" (مر14:
"قد عملت بي عملا حسنا. . . الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضا بما فعلته هذه تذكارا لها"(مت26: 10و 13).
لقد قصدت مريم من كسر قارورة الطيب وسكبه على جسد الرب ان تكرمه هو _ له المجد "فأنها إذ سكبت هذا الطيب على جسدي أنما فعلت ذلك لأجل تكفيني" (مت26: 12) كما أنها بلا شك أرادت ان تنعشه برائحته الذكية ولكن البيت كله امتلأ من رائحة الطيب، ومن هذا نتعلم ان كل سجود أو تعبد نقدمه له لا بد ان ينشئ سرورا وانتعاشا ليس لحاسيات الرب وحده بل ولكل النفوس المحيطة بنا، ولا سيما في اجتماعاتنا معا، فأننا إذ نجتمع باسمه وفي حضرته فأنه يتكئنا على مائدته الملوكية ويشبع نفوسنا ببركاته الوفيرة ويلذذ قلوبنا برؤية طلعته البهية وإذ ذاك تتصاعد من قلوبنا وأفواهنا ذبائح الحمد والتسبيح وينتشر عبيق الناردين ورائحته العطرية فينعش قلبه المحب وتنعش قلوبنا نحن وكل المتكئين معنا في حضرته السعيدة.
"ما دام الملك في مجلسه (على مائدته) أفاح ناردين رائحته"
ألا ترسم كلمات العروس هذه أمامنا صورة جميلة لاجتماع القديسين في تدبير النعمة الحاضر حول مائدة الرب؟ ان الرب تبارك اسمه يأمرنا بل بالحري يدعونا لذكرى موته فوق الصليب قائلا "أصنعوا هذا لذكرى" ونحن إذ نجتمع في يوم الرب أي "في أول الأسبوع" (أع20: 7) لنشترك في "مائدة الرب"(1كو10: 21) فنكسر الخبز الذي "هو شركة جسد المسيح"(1كو10: 16) ونشرب "كأس الرب" (1كو10: 21) أعني "كأس البركة" التي "هي شركة دم المسيح"(1كو10: 16) ونتغذى ونشبع من وليمته المباركة "عشاء الرب" (1كو11: 20) فلا بد ان تفيض قلوبنا سجودا وتسبيحا وترنما لمن أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه. نعم لا بد ان تفيح رائحة الناردين الذكية. وأننا نرجو القارئ العزيز ان يلاحظ الفرق الكبير بين اقترابنا إلى الرب كمحتاجين فنطلب منه أعوازنا واحتياجاتنا، وبين وجودنا أمامه واتكائنا على مائدته كساجدين لنقدم له ذبائح الحمد وأغاني التسبيح وسجود القلب الممتلئ من محبته. صحيح أننا في حاجة مستمرة لاقتراب إليه لنطلب منه أعوازنا واحتياجاتنا "اطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملا" (يو16: 24) ولكن ما أقل اقترابنا إليه بقلوب قد ملأتها وغمرتها محبته فتفيض له بالسجود والمديح وهذا هو المقصود بقول العروس "أفاح نارديني رائحته".
* * *
ويا لها من كلمة حلوة "نارديني" فمع ان العروس في ذاتها لا تملك شيئا، وما الناردين الذي معه إلا من هباته لها ومن "ثمر الروح" الساكن فيها إلا أنها تعتبر ان هيبته أصبحت ملك لها، ولكنها مع ذلك تعود فتقدمها له "لان منك الجميع ومن يدك أعطيناك"(1أخ 29: 14).
ان كنا في مطلع إصحاحنا قد وجدنا العريس "بأدهانه الطيبة" فها نحن في النهاية نرى العروس "بناردينها" لكن الكل من النعمة، فالملك في مجلسه، والمائدة مائدته والناردين والأدهان كلها له "ترتب قدمي مائدة تجاه مضايقي. مسحت بالدهن رأسي. كأسي ريا"(مز23).
ولن يصل القلب إلى نقطة السجود إلا إذا فاض أولا، فأنه حينئذ يكون قد فرغ من ذاته ولم يعد له ما يطلبه. ذلك لان السجود الحقيقي هو فيض القلب، وهذا الفيض الذي مرجعه امتلأ القلب بالمسيح، هو السجود المسيح ومن هنا ندرك الفرق بين اجتماع الصلاة واجتماع السجود ولا سيما حول "مائدة الرب" وقد نأتي إلا الاجتماع الأول بأوعية فارغة وتصرخ إلى الرب راجين ان يجيب توسلاتنا استنادا على وعده الكريم "اسألوا تعطوا. اطلبوا تجدوا. أقرع يفتح لكم" أما إلى الاجتماع الأخير فيجب ان نذهب ونحن حاكمون على أنفسنا تماما ومهيئون لان نعيد بأطايب الملك وبغنائم نصرته، وبثمار الفداء المبارك. هذا ما وصلت إليه العروس هنا، فقد وصلت إلى أسمى نقط السعادة والغبطة فهي في سلام وهناء تتمتع بحضرة الملك وهو متكئ على مائدته، فقد استبدلت بنشاط الخدمة أو المشغوليات المتنوعة جلست جالسة السجود الهادئ، أما الشمس المحرقة، وأما الاضطهاد والفقر والحزن فقد غرقت وذابت جميعها في محيط الفرح الذي غمرها به حضوره المجيد، والآن كسر قارورة الطيب وامتلأ البيت من رائحته العطرية، بعد ان دهنت رأس السيد وقدميه وتلذذ قلبه بثمار محبتها.
ما دام في مجلسه فنارديني قد أفاح
رائحة ذكية لسيدي نبع الصلاح