خمائل الطيب: تفسير نشيد الأنشاد
ص 1، آية 4 4-"اجذبني وراءك فنجري. أدخلني الملك إلى حجاله. نبتهج ونفرح بك. نذكر حبك أكثر من الخمر. بالحق يحبونك".
ما أشد حاجة المؤمن الحقيقي في هذه الأيام التي سادت فيها روح لاودوكية _ روح الفتور والهزال الروحي حتى بين المؤمنين الحقيقيين، فقصرت خطواتهم في المسير والركض وراء الرب. أقول ما أشد حاجة المسيحي الحقيقي إلى سكب قلبه أمام الرب والتوسل إليه بهذه الطلبة "اجذبني".
وكما أننا كخطاة لم نقدر ان نأتي إلى المسيح بقوتنا الذاتية ولكن الآب هو الذي جذبنا إلى المسيح "لا يقدر أحد ان يقبل إلي ان لم يجتذبه الآب"(يو6: 44) هكذا لا نستطيع كمؤمنين ان نركض وراءه ان لم يجتذبنا هو. لقد عرفت العروس هذه الحقيقة. عرفت أنها في ذاتها ضعيفة "بدوني لا تقدرون ان تفعلوا شيئا"(يو15) وأنه ليست فيها القوة للجري ما لم يجذبها هو وراءه، وفوق ذلك فأنه توجد قوات مضادة _ داخلية وخارجية بلا هوادة على جذبها بعيدا عنه، لذا كانت طلبتها في خلال الأجيال المتعاقبة "اجذبني. اجذبني" حتى جاء الوقت الذي فيه استجاب الرب هذه الطلبة، ولقد تكلف له المجد كلفة كبيرة في سبيل استجابة هذه الطلبة وهي بذل حياته الغالية فوق الصليب "وأنا ان ارتفعت عن الأرض أجذب إلى الجميع قال هذا مشيرا إلى أية ميتة كان مزمعا ان يموت"(يو12: 32و 33).
ومع ان هذا السفر كتب في عهد الناموس إلا أننا لا نجد فيه ذكرا ولا تلميحا له أو للوصايا، ولا للأوامر والنواهي، ولا الدينونة واللعنات المروعة المرتبطة بكسر تلك الوصايا، فهذه كلها وان كانت مخيفة منه ومرعبة ولكنها لا تستطيع ان تجتذب نفس الإنسان إلى الله بل بالحري تخيفه منه وتبعده عنه (عب12: 18-21) ولكن "ربط المحبة" وحبال الصليب هي التي تستطيع وحدها ان تجذب أشر الخطاة إلى المسيح "وكان جميع العشارين والخطاة يدنون منه ليسمعوه. . . محب للعشارين والخطاة" (لو15: 1، 7: 34). نعم وان "ربط المحبة" هي التي تستطيع ان تجذب قلب المؤمن ليجري وراء هذا العريس المبارك.
* * *
تقول العروس اجذبني "وراءك" _وراءك أنت فقط وليس سواك، حتى وان كان وراء غيرك توجد مسرات جسدية وملذات ومباهج، وقد أجد وراءك آلاما وتعييرات، ولكن خير لي ان أنكر نفسي واحمل صليبي وآتي وراءك من ان أسير على بساط الراحة وفي وسط نعيم الملذات الوهمية الخادعة وراء غيرك. أني متيقنة ان سلام القلب الهادئ، والهناء الصحيح والسعادة الحقيقية لن أجدها إلا وراءك، فاجذبني إذن أيها العريس المبارك وراءك "فنجري".
فلا تريد العروس ان تتبع عريسها بخطوات متباطئة ومتثاقلة بل تريد ان "تجري" وراءه. فان كان أهل العالم لا يسيرون وراء شهواتهم على مهل بل "يركضون إلى فيض الخلاعة"(1بط4: 4) وأنهم "أسرعوا وراء آخر"(مز16: 4) وان كان جيحزي في سبيل الحصول على وزنه فضة وحلتي ثياب يقول "حي هو الرب أني أجري وراءه (أي وراء نعمان) وأخذ منه شيئا"(2مل5: 20) أفليس من العار على العروس التي رأت في عريسها جمالا باهرا ووجدت عنده غنى وكرامة وحظا يفوق كل ما في هيئة هذا العالم الزائل، ان كانت لا تجري وراءه؟ ليت كل مسيحي حقيقي لا يقف عند حد المعرفة التي وصل إليها عن شخص ربنا المبارك بل ليكن لهجه في كل حين "لاعرفه" وكل ما زادت معرفتنا له كلما زادت رغبتنا في معرفته أكثر "أنمو في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع المسيح" وكلما ازددنا قربا إليه كلما زاد شوقنا لازدياد القرب منه.
كلما أصبو إليه لذني فيه الوفاق
كلما أدنو لديه زادني فيه اشتياق
نعم، وبقدر ما يزداد تذوقنا لمحبة العريس بقدر ما نستطيع ان نقول بحق بأنها تفوق الإدراك. أنها "محبة المسيح الفائقة المعرفة" وان في محضره وفي القرب منه فرحا سماويا عجيبا، ومع ذلك فأننا مع تمتعنا بهذا الفرح الذي لا ينطق به ولا يمكن التعبير عنه فان النفس تتوق إلى قرب أكثر وإلى زيادة الالتصاق به، فتقول العروس "اجذبني. اجذبني فنجري وراءك".
اجذبني يا رب للصليب اجذبني أيا حنون
اجذبني إليك أيها الحبيب إلى جنبك المطعون
ليتنا نـزداد شوقا وحنينا إلى شركة أعمق مع ربنا وسيدنا وعريسنا الجليل "يا الله إلهي أنت. إليك أبكر. عطشت إليك نفسي يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء. . . في السهد ألهج بك. . . التصقت نفسي بك يمينك تعضدني"(مز63).
* * *
ثم ان هنا شيئا آخر جديرا بالملاحظة وهو قول العروس "اجذبني" (بصيغة الفرد) "فنجري"(بصيغة الجمع) فان ركضنا وراء الرب لا ينشئ بركة لنفوسنا فقط بل يؤثر في نفوس الآخرين ويوقظ مشاعرهم ويقودهم إلى معرفة المخلص الوحيد وبالتالي ليجروا معنا وراءه. فيالها من مسئولية خطيرة إذ ان كل كلمة ننطق بها وكل عمل نعمله لا بد ان يترك أثره في نفوس الآخرين. نعم ان مسئولية كنيسة الله التي هي عمود الحق وقاعدته خطيرة جدا، فإذا ما كانت الكنيسة ناهضة وأمينة لرأسها المبارك فأنها تستطيع ان تربح نفوسنا كثيرة وتجتذبها إلى المسيح، وحينما تجد مؤمنين قريبين من الله ورجال صلاة يرون أفرادا وجماعات على ركبهم أمام الرب فأنه تكون لحياتهم قوة مؤثرة وجذابة للبعيدين إلى المسيح. لما حدثت الزلزلة العظيمة في سجن فيلبي بسبب صلاة وتسبيح بولس وسيلا (أع16) وانفكت قيودهما انفكت معها قيود بقية المسجونين، هكذا إذا تحرر المؤمنون من الربط العالمية ومن الفتور الذي استولى على الكثيرين منهم فلا بد ان هذا يؤول إلى تحرير كثيرين من أهل العالم الذين ربطهم الشيطان بقيود الموت الأبدي "رد لي بهجة خلاصك وبروح منتدبة أعضدني فأعلم الآثمة طرقك والخطاة إليك يرجعون"(مز51: 12و 13 أنظر أيضا يو4: 28-30و 39).
يا أيها الابن الحبيب اجذبني فنجري وراك
فأنت لي نعم النصيب وليست أشتهي سواك
ومن الناحية الأخرى فان عدم أمانتنا للرب لا يقصر ضرره علينا بل يسبب ضررا للآخرين. لما قال بطرس للتلاميذ الذين كانوا معه عند بحر طبرية "أنا اذهب لأتصيد. قالوا له نذهب نحن أيضا معك"(يو21: 3) وبذا لم يسبب تعبا لنفسه فقط بل وللباقين أيضا. ليتنا "نضع لأرجلنا مسالك مستقيمة لكي لا يعتسف الأعرج بل بالحري يشفى"(عب12: 13) ليتنا لا نجعل عثرة في شيء، ولنذكر دائما قول السيد "ويل لمن تأتي به العثرات".
* * *
جميل ان العروس إذ تتغنى قائلة "اجذبني" تنضم إليها العذارى وينشدن معها قائلات "فنجري وراءك" ( 1 ) والعروس تسر بانضمام العذارى إليها واتحادهن معها لا شك ان العروس الأرضية المعبر عنها بأورشليم أو يهوذا والتي موضوع هذا السفر نبويا سيكون لها مركزها الخاص ولكنها ستسر لان آخرين من بقية الأسباط لم يتدنسوا بالشرور والأوثان التي ستعم المسكونة في فترة الارتداد وان هؤلاء سيكون لهم نصيب مبارك في العلاقة بهذا العريس، ومعرفة هذه الحقيقة _ أي عدم الخلط بين إسرائيل والكنيسة يساعد المؤمن على فهم غرض الروح القدس في هذا السفر وفي كل الأسفار النبوية الأخرى، ولا بد لنا من التنبير على هذه الحقيقة الهامة وهي ان سفر النشيد يشير بكيفية مباشرة إلى البقية التقية عندما ترجع إلى المسيا عريسها قبل رجوعه إليها _ ذلك الرجوع الذي تكون قد تهيأت له كما يتبين من لغة هذا السفر، ومن الخطأ ان نظن بان رفع البرقع عن البقية وتجديدها سيكون عند ظهور الرب فأنه عند رجوع الرب بالمجد سيكون ذلك اليوم لا يوم تجديدها بل يوم قبولها وتمتعها عمليا بالعلاقة بعريسها. ان ذلك اليوم السعيد يبدأ عندما "يفيح النهار وتنهزم الظلال" لكن لغة العريس والعروس في سفر النشيد هي قبل ان يفيح النهار وقبل ان تنهزم الظلال، والعروس تتوقع بالإيمان ذلك الوقت المبارك.
"ادخلني الملك إلى حجاله"
لقد طلبت العروس إلى العريس بان يجذبها فتجري وراءه، ولا ريب في ان الجري أو بالحري السير وراء الرب بخطوات واسعة ليس أمرا هينا. ان فيه إذلالا للطبيعة وآلاما للجسد "ان أراد أحد ان يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني. فان من أراد ان يخلص نفسه يهلكها. ومن يهلك نفسه من أجلي فهذا يخلصها"(لو9: 23و 24) وهوذا العروس قد تبعت عريسها المحبوب. لقد حاضرت بالصبر في الجهاد الموضوع أمامها فماذا كان جزاؤها؟ أو بالحري بم كافأها الرب أثناء ركضها وجريها وراءه؟ "ادخلني الملك إلى حجاله" وهذه هي النتيجة العملية المباركة التي تفوز بها كل نفس تجري وراء الرب، فأنها تدخل إلى حجاله (أي مقاصيره أو غرفه السرية الخاصة) "قصور العاج"(مز45:
وهنا يجدر بنا ان نتأمل طويلا بكل هيبة ووقار وفي صمت عميق ورهيب في جمال تلك الحجال، فهناك تنبهر أبصارنا بضياء طلعة العريس المحبوب. هناك وهناك فقط تتمتع النفس بالشركة الهادئة والمناجاة الحبية المقدسة. هناك السعادة الحقيقية التي تنشدها وتسعى إليها كل نفس في الوجود "لان يوما واحدا في ديارك خير من ألف"(مز84: 10) "واحدة سألت من الرب وإياها ألتمس ان أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي لكي أنظر إلى جمال الرب وأتفرس (فيه) في هيكله"(مز27: 4).
* * *
ثم ان العروس تعترف بأنه هو الذي أدخلها إلى حجاله، فنحن من ذواتنا ليست فينا القدرة على الدخول إلى حجاله، لكنه تكرما منه هو الذي يدعونا ويقودنا بالروح القدس إلى محضره المقدس لنتمتع بهذه الشركة المباركة. لما رجع الرسل إلى الرب يسوع وأخبروه بكل شيء كل ما فعلوا وكل ما علموا (أي بعد الخدمة والجهاد والركض) قال لهم "تعالوا أنتم منفردين إلى موضع خلاء (أو بالحري إلى حجالي) واستريحوا قليلا"(مر6: 30و 31). أننا كحمامة نوح التي لما لم تجد مقرا لرجلها رجعت إليه إلى الفلك (تك8: 9) ألم يدرك داود هذه الحقيقة وهي أنه من ذاته لا يستطيع الدانا قليل الاداب يا مستر اطردنى إلى حجال الملك ولذا قال "واحدة سألت من الرب وإياها ألتمس ان أسكن في بيت الرب. . . "؟
ليت لنا معشر المؤمنين الحنين القلبي للوجود في دائرة الشركة المقدسة مع الرب فنقول مع المرنم "ما أحلى مساكنك يا رب الجنود. تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب. قلبي ولحمي يهتفان بالإله الحي" (مز84: 1و 2).
* * *
وتصريح العروس أيضا بان الذي أدخلها إلى حجاله هو "الملك" فهو ليس العريس فقط بل أنه "الملك". صحيح أنه سيكون كذلك بالنسبة لتلك العروس الأرضية، الأمر الذي عرفه المجوس الذين أتوا من المشرق بهداية النجم الذي ظهر لهم، فسألوا عنه قائلين "أين هو المولود ملك اليهود" كما ان بيلاطس كتب عنوانا ووضعه على الصليب "يسوع الناصري ملك اليهود" أما بالنسبة لنا نحن المؤمنين في زفاف النعمة الحاضر فهو رأس الجسد _ الكنيسة وعريسها المبارك، ولكن ألا يستحق هذا العريس ان يأخذ مكانه في قلوبنا كالملك؟ ألا يستحق هو _ تبارك اسمه ان نتوجه ملكا على عروش قلوبنا؟ وبالتالي ألا يجب ان نخلي هذه القلوب من كل شيء سواه؟ "ليحل المسيح بالإيمان في قلوبنا" (أف3: 17) أو ليس تنازلا منه ان يقول لكل منا "يا ابني أعطني قلبك"؟
إذن لنعط للملك مكانه اللائق به في قلوبنا وفي حياتنا وهو في نعمته الغنية يدخلنا إلى حجاله وعندئذ نترنم قائلين.
"نبتهج ونفرح بك"
فمع ان العروس تمتعت في حجاله ببركات كثيرة ونعم وهبات لا حصر لها ولكن موضوع بهجتها وفرحها هناك ليس تلك البركات ولا المناظر المجيدة التي في تلك الحجال، وأنما شخص عريسها وملكها التي استحوذ عليها وامتلك كيانها بجملته، فلم تلهها عنه البركات الكثيرة التي أغدقها عليها هناك.
بحبك السامي لقد وهبنا كل البركات
لكن شخصك لنا أثمن من كل الهبات
تأمل في مريم المجدلية وهي عند قبر السيد، لقد رأت هناك ملاكين بثياب بيض وكان منظرهما جميلا يبهر العين الطبيعية ولكن ماذا كان تأثير منظرهما المتلألئ عليها؟ ان منظرهما لم يشغل قلبها أو فكرها فقد كان غرضها الأوحد هو سيدها، ولم يكن ليشغلها عنه أي شيء آخر لا في الأرض ولا في السماء "من لي في السماء ومعك لا أريد شيئا في الأرض"(مز73: 25) وكذلك كان الحال مع داود قديما، فمع ان الرب اختصه ببركات جزيلة، إذ جعله ملكا على شعبه إسرائيل وغمره بهبات وعطايا وفيرة، إلا ان هذه كلها لم تكن موضوع فرحه، فلا صولجان الملك في يده ولا التاج الذي زين جبينه ولا العرش الذي أجلسه الرب عليه كانت مصدر سروره. لم تكن العطايا سبب ابتهاجه بل واهب العطايا _ الرب نفسه، لقد فرح قلبه بالرب وابتهجت روحه به فرقص بكل قوته أمام الرب حتى لقد اعتبره الإنسان الجسدي "كأحد السفهاء" ولكنه لم يبال بذلك بل صرح قائلا "لعبت أمام الرب وأني أتصاغر دون ذلك وأكون وضيعا في عيني نفسي"(2صم6: 14-22)
فهل وصلنا نحن إلى هذا المستوى من الهيام بذات العريس والفرح به؟ أننا بكل أسف، قلما تبدو رغبتنا في الدانا قليل الاداب يا مستر اطردنى إلى حجاله حبا فيه وشوقا إليه بل لشعورنا بالحاجة إلى نوال شيء منه، فلا نطرق بابه لنخلو ونتمتع به بل لنستعطي منه، وما أحط هذا المستوى. ليت الرب يملأ نفوسنا حبا له وشغفا به في كل حين.
* * *
هذا وان العذارى لم يشتركن مع العروس في تحمل مشاق السعي والجري وراء الرب فقط بل شاركنا في الابتهاج والفرح به، فان كانت العروس تقول "ادخلني الملك إلى حجاله"(بصفة المفرد) فان العذارى يرين معها هناك ويشتركن معها في التعبد والتغني له قائلات معها (بصيغة الجمع) "نبتهج ونفرح بك" ليتنا إذن نهتم بالنفوس المحرومة من الرب فنسعى بكل قوانا لاجتذابها إليه لتشترك معنا في الابتهاج والفرح بالرب، وهذا مما يضاعف أفراحنا إذ نرى آخرين قد تذوقوا حلاوة النعمة وصلاح الرب. فلندع الآخرين لكي يذوقوا وينظروا ما أطيب الرب "عظموا الرب معي ولنعل اسمه معا".
"نذكر ( 1 ) حبك أكثر من الخمر"
ليس ما ينعش نفوسنا وينهض حياتنا الروحية ويزيدنا تعلقا بالرب وتكريسا له أكثر من ذكر محبته "لان محبة المسيح تحصرنا. . " لكي نعيش نحن الأحياء فيما بعد لا لأنفسنا بل للذي مات لأجلنا وقام (2كو5: 14و 15) ومهما أحاطت بنا الهموم والآلام فالتأمل في محبته وامتلاء قلوبنا وعقولنا بها يرفعنا فوق كل الظروف المحيطة بنا، إذ ان "في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا. . فأنه لا موت ولا حيوة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر ان تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا"(رو8: 37-39).
ويا له من امتياز ثمين لكنيسة الله إذ تذكر في مدة غربتها في هذا العالم محبة عريسها المبارك "أكثر من الخمر" ففي أول أسبوع تلتف حول مائدته الكريمة ، فتأكل من الخبز الواحد وتشرب من الكأس (الخمر) وهناك تذكر حبه فتبتهج بفرح لا ينطق به ومجيد وتسكب عواطفها أمامه سجودا وتعبدا وتسبيحا "أخذ يسوع خبزا وبارك وكسر وأعطاهم وقال خذوا هذا هو جسدي ثم أخذ الكأس وشكر وأعطاهم. . . وقال لهم هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين . . ثم سبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون"(مر14: 22-26) فذكرى حبه العجيب ملأت أفواههم تسبيحا وترنما.
"بالحق يحبونك"
ان كلمة "بالحق" بمعنى "الاستقامة" أي "بالاستقامة يحبونك" أو "المستقيمون يحبونك" ( 1 )وواضح ان المحبة الصادقة للرب برهانها ودليلها العيشة بالأمانة والقداسة والطاعة القلبية الكاملة له، "ان كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني والذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي. . ان أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منـزلا. . . الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي" (يو14: 15و 21و 23 و 24) وفي تنبير الرب على حفظ وصلياه الدليل القاطع على ان من لا يحفظ كلامه فقلبه خال من المحبة للرب، كما ان أقواله هذه تبين اهتمامه له المجد بمحبتنا له وتقديره لها.
ان القلب المنحرف وغير السالك في الحق وبحسب الاستقامة لا يمكن ان يحب العريس والملك المحبة الصحيحة التي تشبع قلبه، وهو تبارك اسمه يعرف الذين يحبونه من كل قلوبهم، وأحشاؤه تتألم من الذين لا يحبونه بالحق، وبصوت العتاب يخاطب كلا منهم "عندي عليك أنك تركت محبتك الأولى فأذكر من أين سقطت وتب وأعمل الأعمال الأولى"(رؤ2: 4و5).
ونكرر القول بان الرب يهتم جدا بمحبتنا له ويقدرها كل التقدير، فقد سأل بطرس ثلاثا "أتحبني" وقد كان بطرس صادقا في جوابه "نعم يا رب أنت تعلم أني أحبك"(يو21) فهل يستطيع كل منا ان يجيب الرب بمثل جواب بطرس؟ ليعطنا الرب ان نحبه أكثر "لأنه هو أحبنا أولا".
* * *
وقبل ان ننتقل من تأملات في هذا العدد نقتطف جزءا مما كتبه أحد رجال الله الأفاضل ( 1 ) تعليقا على قول العروس "أدخلني الملك إلى حجاله. نبتهج ونفرح بك. نذكر حبك أكثر من الخمر بالحق يحبونك".
"لماذا دعي المسيح هنا "الملك"؟ أنه لقب نبوي عن علاقته بشعبه الأرضي بعد رجوعهم للرب مستقبلا. لا شك ان له الحق في هذا اللقب في كل حين، غير أنه لم يذكر عنه الكتاب المقدس بأنه ملك الكنيسة. نعم هو الملك المستحق لكل خضوع واجلال، إلا أنه بالنسبة لمؤمني العهد الجديد هو رأس الجسد الكنيسة، كما أنه "ملك اليهود" ولنلاحظ أنه تبارك اسمه أتى أولا في وداعة النعمة مقدما ذاته لابنة صهيون، ولكنها _ بكل أسف _ رفضته. لقد احتقرته وصلبته ولكن الله أقامه وأعطاه مجدا. فكان من وراء ذلك كل الخير لنا، إذ بقيامته صارت له حقوق شرعية وألقاب جديدة، لا كملك اليهود فقط بل كرأس جسده الذي هو الكنيسة وكمركز المجد العتيد (قارن زك9 ويو12 وأع2 وأف1 وفي2). لهذا هتف له اليهود قائلين "أوصنا. مبارك ملك إسرائيل الآتي باسم الرب" إلا أنه لم يمض وقت طويل حتى صرخوا قائلين "خذه. خذه. اصلبه" ففي النهاية ملأوا مكيال آثامهم بقطع المسيا، إذ بصلبه وبازدرائهم بشهادة الروح القدس انقطعت علاقتهم مع الله وحرموا، إلى حين، من الملكوت الموعود به.
إلا ان "كلمة الرب تثبت إلى الأبد" فخطية الإنسان وعد إيمانه لا يبطلان أمانة الله، فبالفداء الذي تم بموت المسيح وضع الأساس لرد إسرائيل مستقبلا، وذلك بالنعمة طبقا لمقاصد الله غير المتغيرة، وذلك لكي يملك الأبناء الميراث المبارك الذي وعد به الآباء ويتمتعون به "وأقول ان يسوع المسيح قد صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يثبت مواعيد الآباء" (رو15:
وليس هناك أوضح ولا أصرح من كلمة الله من جهة ملك الرب يسوع في المستقبل وعلاقته بكرسي داود وكل بيت إسرائيل، ومن المحقق ان أورشليم ومدن يهوذا ستكون مركز الملك الألفي، كما ان أورشليم السماوية "مدينة الله الحي" ستكون المركز السماوي وحلقة الاتصال لدوائر المجد السماوي (عب12: 22-24).
صحيح ان شعب إسرائيل بسبب خطاياهم وشرورهم الكثيرة ولا سيما رفضهم ملكهم وصلبهم إياه قد أدركهم الغضب إلى النهاية، فأحدقت الأعداء بأورشليم المحبوبة وأخرجوا الهيكل والمدينة معا، والذين نجوا من السيف تشتتوا في أربع رياح السماء بسبب غضب الله المتقد.
ومن ذلك الوقت صارت حالة إسرائيل "مهجورة وموحشة" غير أنها لن تبقى هكذا إلى الأبد، وهنا نرى الحاجة الماسة إلى فهم الفرق بين معاملات الله السياسية لشعبه ومعاملته لهم بالنعمة، فاليهود كانوا ولا يزالون بسبب خطاياهم وعدم توبتهم واقعين تحت التأديب طبقا لسياسة الله العادلة، ولكن نعمة ومحبة قلبه لهم باقيتان لا تغيير فيهما. تأمل في نصوص عهد "وأذل نسل داود من أجل هذا ولكن لا كل الأيام"(1مل11: 39) وهذا المبدأ عظيم الأهمية، ليس من جهة إسرائيل فقط ولكن مع كل مؤمن بمفرده، وقد أشار الرسول إلى هذا المبدأ الخطير عندما تنازل موضوع رفض إسرائيل وردهم "من أجل عدم الإيمان قطعت. . . وأما من جهة الاختيار فهم أحباء من أجل الآباء لان هبات الله ودعوته هي بلا ندامة"(رو11: 20و 28و 29).
ولقد وصف النبي هوشع _ بصورة مؤثرة _ حالة إسرائيل الحاضرة ورجوعهم مستقبلا "لان بني إسرائيل سيقعدون أياما كثيرة بلا ملك وبلا رئيس وبلا ذبيحة وبلا تمثال وبلا أفود وترافيم بعد ذلك يعود بنو إسرائيل ويطلبون الرب إلههم وداود ملكهم ويفزعون إلى الرب وإلى جوده في آخر الأيام"(هو3: 4و 5) وماذا يتضمن سفر النشيد يا ترى؟ ألا يعلن ويؤكد _ مرة بل مرارا عديدة _ للبقية عواطف الملك غير المتغيرة من نحوهم؟ فستقرأ وستختبر البقية الخائفة الله في الأيام الأخيرة عبارات محبته التي لا تكل ولا تتغير _ محبة (الرب إلههم وداود ملكهم) ففي الماضي _ وهم تحت الناموس _ قد فشلوا وسقطوا أما في المستقبل فيثبتون تحت النعمة. في الماضي كانوا تحت عهد شرطي، أما في المستقبل فسيكونون في دائرة النعمة اللاشرطية، وستكون قيمة ذبيحة المسيا الذي رفضوه مرة، ومحبة الله مقياس بركتهم، ولكن من ذا الذي يستطيع ان يقيس ما لا قياس له؟ هكذا ستكون محبة الملك لعروسه الأرضية _ "يهوذا".
ان سفر راعوث يشرح، بأبسط أسلوب ولكنه أسلوب جذاب ومؤثر للغاية ماضي وحاضر ومستقبل إسرائيل، فنعمي التي كانت متزوجة لم يبق لها ثمر أو نسل، لذا قالت "لا تدعوني نعمي ( 1 ) " بل "أدعوني مرة لان القدير قد أمرني جدا" وزوجها أليمالك (الذي معناه إلهي هو الملك) وأبناها ماتوا في أرض موآب، وبذا صارت أرملة وموحشة وبلا ثمر، وقد حرمت من كل عائل أو مصدر تلجأ إليه "ادعوني مرة. . . أني ذهبت ممتلئة وارجعني الرب فارغة" فهي رمز جلي للأمة اليهودية التاركة إلهها كملكها وزوجها فصارت الآن أرملة موحشة، ولكن بقية ضعيفة تمثلها راعوث الوديعة والمتواضعة التي لصقت بنعمي ستحتمي تحت جناحي الرب إله إسرائيل "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض" فالحقل الذي كانت راعوث تأتي إليه لتلتقط منه صار بعد ملكا لها. لقد عجز الولي الأقرب إليها ان يفك الميراث طالما كان مرتبطا بذلك زواجه بها، وقد تم ذلك أمام الشهود العشرة الذين يمثلون الوصايا العشر المعطاة قبل مجيء المسيح الأول، أما الإتيان "بثمر لله" فهو بكل يقين نتيجة اتحادنا "بمن أقيم من الأموات"(رو7: 1-4).
وبوعز (الذي معناه فيه القوة) قد اهتم بكل قلبه بأمر البقية الضعيفة الباقية من بيت اليمالك، وهو (أي بوعز) رمز للمسيح المقام الذي "تعين (أي أظهر أنه) ابن الله بقوة. . . بالقيامة من الأموات"(رو1: 4) والذي يضفي على هذه الصورة جمالا هو أنه لم يكن لراعوث أي حق مباشر على بوعز لأنه لم يكن الولي الأقرب لها، فكان مسلكه معها من مجرد النعمة، وإسرائيل وكذلك الأمم يجب ان يحصلوا على الميراث على أساس النعمة الخالصة "فولدت (راعوث) ابنا . . وأخذت نعمي الولد ووضعته في حضنها وصارت له مربية وسمته الجارات اسما قائلات قد ولد ابن لنعمي" يا له من منظر جذاب ونعمة محببة للقلب! فهوذا الأرملة تتغنى كأيام صباها والموحشة صارت أما لبنين، والحضن الحزون احتضن مرة أخرى وارثا حيا، وأصبح المشهد مليئا بالفرح، وهنا نرى _ في أسلوب شيق صورة رمزية لرد إسرائيل الكامل إلى أرضهم مستقبلا في حالة الكرامة والمجد والعظمة، فبعد قليل جدا سيأتي بوعز الحقيقي لأجل البقية الخائفة الله ويثبتهم كأمة في أرضهم على أساس جديد، هذا هو الحق المفرح الذي يملأ صفحات الكتاب المقدس.
وإليك القليل من الشواهد الكتابية التي تفوق الحصر ". . . . فترى الأمم برك وكل الملوك مجدك وتسمين باسم جديد يعينه فم الرب. وتكونين إكليل جمال بيد الرب وتاجا ملكيا بكف إلهك. لا يقال بعد لك مهجورة ولا يقال بعد لأرضك موحشة بل تدعين حفصيبة (أي مسرتي فيك) وأرضك تدعى بعولة (أي متزوجة) لان الرب يسر بك وأرضك تصير ذات بعل"(أش62) وأيضا ". . . هأنذا اتملقها واذهب بها إلى البرية ألاطفها وأعطيها كروما من هناك ووادي عخور بابا للرجاء وهي تغني هناك كأيام صباها وكيوم صعودها من أرض مصر . . . واخطبك لنفسي إلى الأبد واخطبك لنفسي بالعدل والحق والإحسان والمراحم. اخطبك لنفسي بالأمانة فتعرفين الرب" (هو2: 14-20) حقا ما أعجب النعمة التي لا مثيل لها _ نعمة الله التي في المسيح يسوع من نحو أول الخطاة وأشرهم ، فالمحبة هي النبع، والنعمة هي التي تتدفق إلى الخاطئ الضال حتى ترده إلى الله. والمحبة هي هي _ في ملئها وكمالها دائما _ فالرب يحب إسرائيل، وهو أيضا يحب الكنيسة، كما أنه يحب كل مؤمن بمفرده، وكل نفس اجتذبت إليه يحبها محبة كاملة _ عنده وحده المحبة الفائقة المعرفة "أدخلني الملك إلى حجاله" أه.
للمزيد من مواضيعي