توطئَة
رأينا في الفصل السابق أن العهد الجديد يرى في يسوع إنساناً حُبِل به من الروح القدس في أحشاء مريم العذراء ووُلد وترعرع وعلّم وصنع المعجزات ثم صُلِب ومات وقام. وتعلن جميع أسفار العهد الجديد أن هذا الانسان هو نفسه المسيح المنتظر وابن البشر الذي أرسله الله في ملء الأزمنة لينشئ ملكوت الله، وتشهد أن هذا الانسان الذي عاش في الزمن هو ابن الله وكلمة الله الكائن منذ الأزل مع الله.
فيسوع إذاً هو إله وإنسان في آن واحد. ولكن كيف يتّحد الانسان والاله في شخص واحد؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي حاول اللاهوتيون وآباء الكنيسة الإجابة عليه منذ القرون المسيحية الأولى، فكتبوا مقالات كثيرة وعلّموا في جميع كنائس الشرق والغرب. وتبيّن للبعض أن تعاليم البعض الآخر حول المسيح يسوع قد حادت عن الايمان القويم، فاتهموهم بالهرطقة. ولحسم الخلافات القائمة بين هؤلاء وأولئك عقدت المجامع المسكونية، وهي مؤتمرات دينية يجتمع فيها أساقفة من كنائس المسكونة كلها في الشرق والغرب لتحديد عقائد الايمان المسيحي. وكان كل مجمع مسكوني يصدر وثائق يعلن فيها إيمان الكنيسة القويم وعقائدها الثابتة، ويرشق بالحرم تعاليم المبتدعين والهراطقة.
لذلك يمكننا القول ان عقائد الايمان التي أعلنتها المجامع المسكونية الأولى كانت كلها، في صياغتها وتعابيرها، موجّهة ضد الهراطقة. ولو لم تقم في الكنيسة بِدَع وهرطقات لاكتفت الكنيسة في تعاليمها بتعاليم المسيح والرسل كما وردت في مختلف أسفار العهد الجديد. إلاّ أنّ البدع والهرطقات التي ظهرت منذ نشأة الكنيسة أرغمت أساقفة الكنيسة ومعلّميها علىِ توضيح تعاليم المسيح والرسل في صيغ وتعابير جديدة. وقد كان هذا التوضيح ضرورياً للإحاطة بسرّ يسوع المسيح الانسان والإله وتحديد أبعاد إنسانيته وأُلوهيته.
لا بد من الاشارة إلى أن المجامع المسكونية لم تدخل شيئاً جديداً على إيمان المسيح والرسل كما ورد في أسفار العهد الجديد. إلاّ أنّها عبّرت عن هذا الإيمان بطُرُق جديدة. فبينما اقتصر العهد الجديد على إظهار يسوع يتصرف في حياته كإنسان وإله، أوضحت المجامع المسكونية كيف يتّحد العنصران الانساني والالهي في شخص يسوع الواحد، فأدخلت في العقائد الإيمانية ألفاظاً فلسفية استقتها من الفلسفة اليونانية السائدة آنذاك، كالأقنوم والشخص والطبيعة والجوهر، وقالت ان المسيح هو شخص واحد في طبيعتين، طبيعة إلهية وطبيعة إنسانية.
إلاّ أنّ تلك الألفاظ لم يكن لها المعنى ذاته في جميع المدارس الفلسفية المنتشرة في أنحاء العالم المسيحي. وقد حدث مراراً أن اتهمت الكنائس بعضها بعضاً بالهرطقة، مع أن الخلاف بينها لم يكن على الايمان بل على الألفاظ والتعابير. إلى جانب هذا الاختلاف في الألفاظ، لا شك أنه كانت هناك بِدعَ حقيقية وتيّارات فكرية خاطئة حرمتها المجامع المسكونية في إعلانها عقائد الإيمان القويم.
لذلك يجب التمييز، في ما أعلنته المجامع المسكونية، بين أمرين: فهناك أولاً الإيمان الذي لا يمكن أن نحيد عنه، وهو نفسه إيمان المسيح والرسل في جميع أسفار العهد الجديد، وهناك ثانياً الألفاظ والتعابير التي فرضتها المجامع المسكونية، وقد اعتبرتها الأدقّ والأصحّ من بين جميع الألفاظ والتعابير المتداولة في زمانها للتعبير عن هذا الإيمان. فتلك الألفاظ والتعابير يمكن مجامع مسكونية أخرى إعادة النظر فيها وتطويرها وفقاً لتطوّر المفاهيم الفلسفية على مدى التاريخ.
ما هو إيمان المجامع المسكونية في ما يختص بيسوع المسيح؟ وما هي الألفاظ والتعابير التي اختارتها للتعبير عن هذا الإيمان؟