التجسد فيض المحبة
القِسْمُ الأوَّلُ
التَّجَسُّدُ الأوَّلُ ابنُ اللهِ يَصيرُ ابن الإنسَانِ
الفَصْلُ الأوّلُ
إلهٌ تَامٌّ وَإنسانٌ تَامٌّ
1-الله يصير إنساناً
في ملء الزمّان، يوم صارت البشريّة مستعدّة لتقبّل مجد الله والإشعاع بسناه، ارتضى ابن الله، خالق الكون والمحبّ البشر، أن ينزل من السماء، ويأخذ صورة بشر في أحشاء فتاة من بني البشر، بحسب قول بولس الرسول:
"لمّا بلغ ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس" (غلا 4 : 4).
ابن الله، الإله من الإله، والنور من النور، اتخّذ طبيعتنا البشريّة بملء حقيقتها، فصار جنيناً، ونما وترعرع كما ينمو ويترعرع كل كائن بشريّ. الخالق صار خليقة، الذي لا نهاية له وُسع في الحشا، "الكلمة صار جسداً" ، كما جاء في انجيل يوحنّا (1 : 14).
ندعو هذا العيد باسمين: فإن أردنا تأكيد حدث الله الذي يصير إنساناً، دعوناه "عيد التجسّد"؛ وإن نظرنا إلى دعوة الملاك جبرائيل العذراء مريم لتصير أمّ الله، دعوناه "عيد البشارة".
سنة 451 ، حدّد المجمع المسكونيّ الرابع الملتئم في خلقيدونية حقيقة التجسّد في نصّ يتّسم بعظمة الفكر ودقّة التعبير. لقد ترك لنا آباء المجمع الخلقيدوني تصريحاً هو في آنٍ واحد نشيد لله وإعلان لكرامة الجنس البشري:
"نعلم أنّ ابن الله الوحيد،
ربّنا يسوع المسيح، واحد هو:
إذ إنّه هو نفسه إله حقّ:
أي إنّه في ألوهيّته من ذات جوهر الآب.
وهو نفسه إنسان حقّ:
أيّ إنّه في بشريّته من جوهرنا البشري.
واحد هو، وهو نفسه المسيح، الابن الوحيد، الربّ،
في طبيعتين (طبيعة إلهيّة وطبيعة إنسانيّة)،
دون اختلاط ولا تحوّل ولا انقسام ولا انفصال.
إنّ اتّحاد الطبيعتين
لم يُزل ولم يُلغِ بأي شكل من الأشكال ما فيهما من تباين.
بل كلّ واحدة منهما حفظت خصائصها وميزاتها،
لدى اتّحادها بالأُخرى في الشخص الواحد،
الربّ الواحد، يسوع المسيح، ابن الله الوحيد،
الذي هو نفسه الله الكلمة".
لقد أعلن آباء المجمع أمرين هاميّن: الأمر الأوّل هو أنّ اتّحاد الله بالجسد البشريّ هو اتّحاد حقيقيّ في صُلب الطبيعة، به اتّحدت طبيعة الله بطبيعتنا البشريّة؛ والأمر الثاني هو أنّ هذا الاتحاد بين الألوهيّة هو اتّحاد من نوع خاصّ، بحيث لا تسيطر طبيعة على أخرى ولا تغيّرها. فالطبيعة الإلهيّة تبقى إلهيّة، والطبيعة البشريّة تظلّ بشريّة، ومع ذلك فالاتّحاد هو في تمام الكمال. فالمسيح هو معاً إله تامّ وإنسان تامّ. وهذا الاتّحاد الخاص بين الألوهيّة والبشريّة يجعل ما هو بشريّ يصير، بنعمة من الله، ما اللهٌ عليه بالطبيعة.
الأمر الأوّل يؤكّده القدّيس بولس بقوله: "في المسيح يحلّ كلّ ملءِ اللاهوت جسديّاً" (كو 2:9).
لا تتغير في طبيعة المسيح الإلهيّة ولا صيرورة. لا انتقال للطّبيعة من نوع إلى آخر. فإنّ شخصَ "كلمة" الله، الأقنومَ الثّاني من الثّالوث الأقدس، باتّخاذه الطبيعة البشريّة، بقي إلهاّ كما كان منذ الأزل وكما سيبقى إلى الأبد. ولكن في الوقت نفسه كان في جسد حقيقي، وصار شريكاً لنا في اختباراتنا البشريّة.
لذلك يمكننا القول حقّاً إنّ الله تجسّد، وإنّ الله وُلد وعطش وجاع، وإنّ الله تألّم ومات وقام، وإنّ الله صعد إلى السماوات.
لنسمع غريغوريوس النَزِيَنْزي ينشد للإنسان الحقيقي والإله الحقيقي الحاضريْن كليهما في تجسّد المسيح:
"إنّه قد وُلد،
ولكنه كان من قبلُ مولوداَ.
وُلد من امراة،
ولكنّه حفظها عذراء.
لُفّ بأقمطة،
إلاّ أنّه رمى أكفان القبر
لمّا قام من بين الأموات.
وُضع في مذود،
غير أنّ الملائكةَ مجّدته،
والنجمَ أعلن عنه،
والمجوسَ سجدوا له.
لم يكن له صورةُ بهاء
في أعين شعبه،
ومع ذلك فقد رأى فيه داودُ
أجملَ بني البشر.
على جبل التجلّي كان لامعاً كالبرق،
وصار وجهه مضيئاً أكثر من الشّمس،
فأدخلنا في نور أسرارِ ما سوف يأتي.
تقبّل المعمودية لكونه إنساناً،
إلاّ أنّه غفر الخطايا لكونه إلهاً.
جُرّب لكونه إنساناً،
غير أنّه انتصر لكونه إلهاً.
قاسى الجوع،
لكنّه أطعم الآلاف.
عرف ما العطش،
لكنّه نادى: "إن عطش أحد فليأتِ إليّ ويشرب".
اختبر التّعب،
إلاّ أنّه سلام المُتعَبين.
إنّه يصلي،
لكنّه أيضاً يستمع الصّلاة.
إنّه يبكي،
لكنّه هو الذي يضع حدّاً للدُّموع.
يسأل أين وُضع لعازرُ الميْتُ، لكونه إنساناً،
لكنّه يقيم لعازر من الموت، لكونه إلهاً.
كشاة سيق إلى الذبح،
غير أنّه هو راعي العالمين.
سُحق وجُرح،
لكنّه هو الذي يشفي الأمراض والجراح.
رُفع وسُمِّر على عُود،
لكنّه هو الذي بعود الحياة يحيينا.
وضع حياته،
لكنّ له سلطاناً أن يسترجعها.
إنّه يموت،
لكنّه يمنح الحياة،
يموت، وبموته يبيدُ الموت".
إنّ الطريقة التي ظهر فيها الله يدعوها بولس الرّسول "إخلاء". فابن الله قد "أخلى ذاته، آخذاً صورةَ عبد" (في 2: 7)، أي إنّه أفرغها من كل علامات المجد المرتبطة بألوهيتّه. لم يتخلّ عن ألوهيته، بل سَتر ما فيها من سِمات المجد، وصار خاضعاً، ليس لما في الطبيعة البشرية عامّةً من حدود وحسب، بل أيضاً لحدودِ التّاريخ الذي أتى فيه، والعِرق الذي أُخذ منه جسداً.
الأزليّ خَضع للزمن، ومُعطي الناموسِ خضع لناموس موسى، إذ "وُلد من امرأة، وُلد تحت النّاموس" (غلا 4 : 4). بقي الله إلهاً كما كان، وتشرّبت بشريّتنا الألوهة. لذلك يجوز لنا القول: "إنّه ما من أمر بشريّ يمكن أن يكون غريباً عن المسيح"، الذي هو الإله الإنسان، أو بالحريّ الإلهُ الصائرُ إنساناً.
2- الإنسان يصير إلهاً: التألّه
إنّ الذات الإلهيّة قد اتّحدت اتّحاداً حقيقيّاً بطبيعتنا البشريّة. لذا يمكننا القول دونما تردّد لذا يمكننا القول دونما تردّد: إنّ كلّ قوة في جسدنا البشريّ صارت، في جوهرنا، نغماً شريفاً ولحناً مقدّساً. اللهُ الآبُ منحَ ابنَه طبيعةً بشريّة. لذا يمكننا القول إنّ الجسد البشريّ هو أثمن هديّة يمكن الله أن يقدّمها، إلى جانب تقدمة ذاته. "لقد شاهدنا مجده" (يو1: 14) في جسد طفلٍ عريان. نحنُ المسيحيّين نرى في الجسد البشريّ هديّةً ونعمةً، وأداةً إلهية بها ألّه الله الكونَ بأسره. ولمّا صعد إلى السماء في هذا الجسد عينه، نقلنا معه ونقل الكون كلّه إلى الآب، ينبوعِ كياننا ومصدره. هذا هو التألّه.
إنّ عقيدة التألّه هي، في ديانتنا المسيحيّة، التعليمُ الأهمَ. وقد أُغفلت وأهملت، حسب قول فلاديمير لوسْكي، "لانشغالنا الوحيد بأمر خلاصنا، أ, بالحريّ لأنّنا لم ننظر إلى اتّحادنا بالله من ناحيته السلبيّة، أي بالنسبة إلى شقائنا الحاضر الذي أُنقذنا منه".
إنّ الله، باتّحاده بطبيعتنا، لم يغيّر ذاتَه، ولم يغيّر بشريّتنا. بل قدّم ذاته نعمة وهبة لبشريّتنا، ورفعها إلى أعلى مستوى من الكيان. لقد أَلّهَنا، أي إنّه منحنا النعمة والمقدرة على أن نحبّ من محبّته ونحيا من حياته.
بنعمة التألّه يتاح لنا أن نفكّر ونحبّ ونعمل على مثال الله. إنّها لّعطيّة مجّانيّة، عطيّة حياة مقدّسة معه. لا خليقة تستطيع بقوّتها الذاتيّة أن تفكّر أو تحبّ أو تعمل على المستوى الخاص بالله. ولكنّ الله، بمجيئه إلينا واتّخاذه طبيعَتنا، منحنا المقدرة على أن نفكّر كما يفكّر هو، ونحبّ كما يحبّ هو، على أن نفكّر ونحبّ ونكون حقّاً على مثاله، فنصير واحداً معه في الفكروالقلب. وقد عبّر عن هذا أروعَ تعبير القدّيسُ أثناسيوس بقوله: "إنّ الله قد أتى إلينا ليحمل جسدنا، فيُتاح لنا أ، نصير نحن حاملي الروُّح".
في التجسّد اتّسمت بشريّتنا بسمات الله، وارتدت إنسانيّتُنا بهاءَ الله، وصارت المادّة في الكون "جوّاً إلهيّاً" يحيا فيه الله، وفيه يتنشّق الحياة والحبّ. وعندما نقدّم ذواتنا للمسيح تقدمةً حرّة تامّة، ونقبل نهج حياته، يتحقّق اتّحادنا التامّ به، ويصير التألّه فاعلاً فينا في كلّ أبعاده.
إنّ عقيدة التألّه هذه هي الفكرة الأولى والرئيسة لتصريح مجمَع خَلقيدونية.
3- وحدةُ الألوهيّة والبشريّة
الأمر الثاني الذي أكّده المجمع الخلقيدوني هو أنّ اتّحاد الطبيعة الإلهيّة والطبيعة الإنسانيّة في شخص المسيح الواحد لم يكن اختلاطاً ولا امتصاصاً يُبطِل فيهما أحدُ العنصرين العنصرَ الآخر أو يزيله. فالألوهيّةُ في المسيح بقيت تامّة وسالمة باتّحادها ببشريّته، وبشريّتُه ظلّت تامّة وفاعلة باتّحادها بألوهيّته. الألوهيّة لبست البشريّة، والبشريّةُ ارتدَت الألوهيّة. وهكذا تألّهت البشريّة.
إن تأليهَ البشريّة، أي تقديسَها، يقوم إذاً أوّلاً وقبل أيّ أمر آخر على عطاء اللهِ ذاتَه لنا ليسكن هو نفسه فينا.
لقد اختار الله أن يصير محور كلّ فكر لنا أو قرار أو رغبة.
لقد وهب لنا ذاته في وحدة أشدَّ ما تكون ألفة وقُرباً.
إنّه يسكن فينا كما يسكن في هيكله الخاصّ،
إنّه يقيم فينا كما يقيم في جوّه الخاصّ. إنّه يصير هو نفسُه قداستَنا.
لذلك لا تأتي قيمة أعمالنا الدينيّة ممّا نعمل نحن،
بل ممّا يملأنا به الله من إيمان ومحبة ورجاء.
إنّ قيمة أعمالنا هي في مدى انفتاحنا لله،
ليرى هو نفسَه فينا، ويُعنى بالكون من خلالنا،
ويصيرَ هو عمقَ ذاتنا.
إنّ الله يهب لنا ذاته لنحيا من حياته،
ونفيضَ بها على الآخرين.
تلك هي النعمة في نظر اللاهوت الشرقي.
إنّها ليست مساعدة تأتينا من الخارج من وقت إلى آخر لتسند ضعفنا.
بل هي سُكنى الله فينا، ليعمل هو نفسه فينا ومعنا.
ومن ثمّ يغدو عملُنا البشريّ عملَنا نحن
وفي الوقت عينه عملَ الله فينا.
تلك هي النعمة، وهي عينها التألّه.
4- الجسد علامةُ الوحدة
نتيجةً لهذا التعليمِ الساميّ، أَعلن مجمع خلقيدونية أنّ بشريّة المسيح ليست بشريّةَ كائنٍ فرْدٍ وحسب، هو شخص يسوع المسيح، بل بشريُّة كلّ واحد منّا. فالقول "إنّ الله صار جسداً" يعني، في عرف الكتاب المقدّس والمسيحيّة، أنّ الله قد صار كائناً بشريّاً حقيقيّاً، بجسد بشريّ حقيقيّ وروح بشريّة حقيقيّة، واتّخذ كلَّ ما تضمنته بنيةُ الكائن البشريّ، وما يقتضيه تطّورُه، مع كلّ مفاجآت الوجود البشريّ. ويعني هذا القول أيضاً أنّ الله صار مادّة. فالجسد يشير إلى المادّة الطبيعيّة التي تتكّون منها البشريّة، إنّه الجزء المأخوذ من الكون، إنّه المادّة عينها التي تتكوّن منها النجوم والكواكب، وحتى جزئيّات الغبار التي تملأ الفضاء بين النّجوم. إنّ "الجسد" يعني إذاً الاتّحاد مع الكون المخلوق بأسره بقدر ما يعني الاتّحاد والتضامن مع كل كائن بشريّ.
إنّ للفظة "جسد" علاقةً وثيقة بمفهوم آخر نجده في العهد القديم والعهد الجديد، ألا وهو مفهومُ "التُّراب". إنّ الجسد والتراب يشيران، في كلا العهدين، إلى الإنسان بكامله. إنّهما رمز للإنسان بمجمله من حيث هو، في عُمق ذاته، مُباين لله في طبيعته الهشّة وفكره العاجز ومسلكه الأخلاقيّ المتقلقِل. وهذا الضّعف الإنسانيّ يَظهر في ما يرتكبه الإنسان من خطايا، كما يظهر في الموت الذي لا بدّ له أن يعبره. فالقول إنّ "الإنسان هو جسد"، والقول إنّ الإنسان هو تراب هما إذاً في جوهرهما قولان مترادفان على نحو بعيد.
وقد استخدم الكتابُ المقدّس رمزَ التراب للتعبير عن جوهر الإنسان في قول الله لآدم بعد الخطيئة الأُولى: "بعَرق وجهكَ تأكل خبزكَ حتى تعود إلى الأرض التي أُخذتَ منها، فإنّّك تراب وإلى التراب تعود" (تك 3 : 19). إنّ التراب هو صورة الإنسان بكامله في جسده وروحه، وقد ورد التّعبير عن ذلك في العهد القديم بطرق مختلفة، كما في النصّ الآتي: "كما يرأف الأبُ ببنيه، رئف الربّ بالّذين يتّقونه، لأنّه عالِم بجبلتنا وذاكر أنّنا تراب" (مز 102 : 13_14).
وإذا ببُشرى الخلاص تُعلَن في مِلْءِ الأزمنة، ويترجّع صداها في جنبات الكون: "الكلمة صار جسداً"، أي إنّه صار تراباً، صار ما نحن عليه. بيد أنّ الجسد والتراب، في التجسّد، لا يعنيان مجرّدَ انحدار الله إلى اللاشيء، إلى الخطيئة والموت، فهذا الانحدار إنْ هو إلاّ سبيلٌ إلى الارتقاء بالبشريّة إلى الله، إلى الأزليّة والخلود. حركةُ الانحدار إلى الجسد والتراب هي لنا حركة ارتقاءٍ وصعود إلى أعلى السَّماوات، إلى التألّه.
لذلك عندما يقول الإنجيل المقدّس إنّ كلمة الله "صار جسداً"، يعني بذلك أنّ كلّ كائن بشريّ في الجسد قد دخلت فيه الألوهة واتّحد بالله. لمّا صار الإله إنساناً، صار الإنسانُ وصار البشرُ كلّهم مشاركين الألوهة، وتغلغلت فيهم سِمات المسيح الإلهيّة. إنّ في التجسّد تبادلاً بين الله والإنسانيّة. غير أنّ الإنسانيّة، في هذا التبَّادل، بقيت كما هي، أي خليقة، وظلّ الله كما هو، أيّ خالق الكلّ وإلههم.
إنّ الجسد، في هذه النظرة الرّائعة التي هي نظرة المسيح نفسه، هو إذاً علامة ورمز.
إنّه الحقيقة المرئيّة للوحدة غير المرئيّة للجنس البشريّ بأسره وللعالم الماديّ بكامله. فكما أنّ جسد آدم كان العلاقة والرمز لوحدة الخليقة كلّها، هكذا جسد المسيح، "آدم الثّاني"، هو علامةٌ ورمز لوحدة جميع البشر والخليقة كلّها.
5- آدمُ الأوّلُ وآدم الثاني
تُبيّن لنا حكاية آدم وحوّاء في الفردوس أنّه طالما كان الإنسان في سلام وانسجام كاملين مع الله، كان السّلام والانسجام سائدين في كلّ مكان، والفردوسُ والسعادة يشملان كلّ الكائنات. إنّ الخليقة كلّها كانت في سلام بفضل وحدتها مع آدم. ولكن لمّا فقد آدم السّلامَ والانسجام في داخله فقد معهما الفردس، وفقده البشرُ كلّهم والخليقةُ كلّها، بسبب تضامن آدم واتّحاده بالبشر كلّهم وبالخليقة برمّتها.
إنّ حكاية سقوط آدم في الخطيئة ورواية نتائج خطيئته هما رمز وتعبير عن نظرة الكتاب المقدّس إلى تضامن كلّ الأجساد وكلّ البشر في علائقهم المتبادلة بعضُهم مع بعض.
يقول بولسُ الرسَّول إنّ يسوعَ المسيحَ، ابنَ الله، هو، بالنسبة إلى الإنسانيّة كلّها والخليقة بأسرها، آدمُ الثّاني. إنّه آدم الثاني لأنّه جمع في ذاته التاريخَ البشريّ برمّته، ومعه وبه بدأت البشريّة مرحلةً جديدة من رحلتها الطويلة نحو النضوج الذي سوف يتمّ لها عندما تصير كلّها واحداً، فتكّون، بحسَب قول بولسَ الرسّول، "إنساناً واحداً كاملاً في المسيح" (أف 4 : 3).
يسوعُ المسيحُ هو آدمُ الثّاني، أي الإنسان الجديد الذي فيه تَجدّد كلّ شيء، ومعه بدأ اتّجاه جذريّ جديد في البشريّة والخليقة بأسرها. الشعوبُ كلّها صارت جسداً واحداً مع البشريّة. يقول القدّيس كيرلّس في تفسيره لإنجيل يوحنّا:
"إنّ الابن الوحيد المولود من الآب له في طبيعته كلُّ كيان الآب.
ولمّا صار بشراً امتزج بطبيعتنا البشريّة،
واتّحد بجسدنا البشريّ اتّحاداً لا يمكن وصفه بكلام بشريّ.
إنّه في آنٍ واحد إلهٌ وإنسان.
يوحّد في ذاته، على نحو خاص،
ما هو مباين له أشدَّ التباين،
ويجعله مشاركاً له في طبيعته الإلهية".
6- الوحدةُ والتضامنُ بين كلّ جسد
يفسّر القدّيس بولس في رسائله هذه الوحدةَ وهذا التضامن بين كلّ جسد وكلّ مادة على ضوء ما أوصى به الله موسى في العهد القديم. فلقد أمر الله أن تُقدَّم له بواكيرُ الثمار وبواكير الحَصاد، وأن يكرّسَ له أيضاً البكْرُ الذَّكَر من كلّ أسرة. ويقول القدّيس بولس إنّ تقدمة الثمار الأولى لله هي اعتراف بأنّ كلَّ ما سيأتي من ثمار ومحاصيل هو أيضاً ملكُ الله. وتقدمة البكر من كل أسرة هي علامةُ تقدمةِ كلِّ الّذين سيولَدون من الحشا نفسه. فالأسرة كلّها هي ملك الله، بحسب القول المأثور: "الواحد في الكلّ، والكلّ في الواحد".
والقدّيس كيرلّس الأورشليميّ يتوسّع في هذا الموضوع، فيقول:
"مهما كنّا عليه من التباين والانقسام، فلقد هيّأ لنا الابنُ الوحيد المولود من الآب وسيلةً ليجمعنا ويوحّدنا في تجسّده كما يوحّدنا أيضاً في تناول جسده. من يستطيع أن يفرّق بين أولئك الذين وحّدهم به؟ من يمكنه أن ينزع عنهم تلك الوحدة الطبيعيّة التي تربط بعضَهم ببعض في وحدة المسيح بواسطة جسده المقدّس؟"
ويؤكّد غريغوريوسُ النّيصي أنّه، في ضوء التجسّد، يجب على المسيحيّين أن يُعلِنوا بقوّة وثبات حقيقة وحدة كلّ جسدٍ في المسيح، فيقول:
"إن وحدتنا هي على هذا القَدْر من الحقيقة بحيث لا يمكننا من بعد أن نتكلّم عن "النّاس" بصيغة الجمع، كما أنّه لا يمكننا أن نتحدّث عن التعدّد في الله عندما نقول "الآب والابن والرّوح القدس".
نحن المسيحيّين نحيا في انسجام مع الآخرين، لأنّنا ندرك تمامَ الإدراك وحدتَنا مع المسيح ومع الآخرين. يمكننا أن نحبّ ونسامح، لأنّنا نعرف معرفة اختبار أنّنا جميعاً واحد. نتّحد بالآخرين لأنّنا نعي وحدتنا مع المسيح. وكذلك نرتبط بالكون، ونؤكّد أنّ كلَّ شيء حَسنٌ، لأنّنا نرى كلّ الأشياء وكلّ الناس قد صاروا واحداً في المسيح. فالمسيح هو حقيقة كلّ ما هو حقيقيّ.
7-المفهوم اليونانيّ للجسد
إنّ مفهوم الفلسفة اليونانيّة "للجسد" والمادّة مناقض كلَّ المناقضة للنّظرة الكتابيّةِ الرّائعة. فالفلسفة اليونانيّة تعتبر أنّ المادّة والجسد مكوّنان من أجزاء وذرّات. والأجزاء والذرّات محدودة في ذاتها، وتضع حدوداً داخل الكائنات. لذلك هي عناصر تفرقة. وبما أنّ الجسد البشري مكوّن من أجزاءٍ تَحُدّ وتُقسِّم وتفرِّق، اعتقد الفلاسفة اليونانيّون أنّه غير جدير بأن تقيم فيه الروّحُ البشرية، فاعتبروه سجناً للروح، وحدّدوا الكائن البشريّ روحاً تسكن قَسْراً في جسد، وليس، كما يقول الكتاب المقدّس، جسداً تحييه روح. والروح والجسد هما، في عرفهم، عدوّان أحدهما للآخر.
يرى أفلاطون أنّ النفس البشريّة التي لا تموت ولا تفنى كانت في الله قبل خلق المادّة. وإذ سقطت في الخطيئة عاقبها الله بأن رمى بها في جسد مادّي "تجسّدت" فيه كما في سجن. وبما أنّ الجسد هو للنفس سجنٌ كريه، وجَبَ، في نظر أفلاطون، أن يُرذَل ويعاقَب. ويذهب هذا الفيلسوف إلى القول بأنّه يجب أن يُقضى على الجسد لتتحرّر منه النفسُ وتطير عائدةٌ إلى مصدرها. ولقد طَوّرت الغنوصيّةُ والمانويّةُ هذه الفلسفةَ اليونانيّة في منهج مسلكيّ صار على جانب كبير من النفوذ بحيث دخلَ الفكرَ المسيحيّ وأفسده على مدى أجيال. والجسد الذي هو، في نظر الإنجيل، علامةُ مجدٍ واعتزاز، صار مرادفاً لعدوّ من أعداء الله. وانتشرت في اللاهوت الغربيّ الفكرةُ القائلة بأنّ أعداء الله ثلاثة:
"العالم، والجسد، والشّيطان".
8- المفهومُ المسيحيّ للجسد
أمّا في نظر الكتاب المقدّس ونظر المسيحيّة، فالشَّخص البشريّ ليس "روحاً مُعتقَلة في جسد"، بل هو، على العكس من ذلك، "جسد تُحييه روح". والجسد والروح مقترنان في الحبّ، بحيث يمكن القول إنّ الجسد هو كالعروس التي يملأها الله بنعمته وبهائه. فالله لم يوحّد بين الروح والجسد عقاباً للروح ولا انتقاماً منها، بل حبّاً بها.
إنّ الجسد، في نظرنا نحن المسيحيّين، هو جزء من الكون ويمثّله بأسره. إنّه خباء وسُكْنى لمسرّة الله. لذلك نعتقد أنّ الله قد خلق الجسد بدافع من حبّه، وبدافع من حبّهِ اتّخذ هو نفسُه جسداً. ونؤمن أنّ المسيح، لمّا وَحّد في ذاته الجسدَ والخليقة، أعادهما إلى مجدهما الأوّل، وإلى الآب الذي منه صَدرا.
إنّ الخليقة بأسرها تجد في جسد يسوع المسيح مبدأَ وحدتها وتضامنها. هذه الحقيقة هي الخيط الذهبيّ الذي نَسَج منه الفكرُ المسيحيّ تعليمه على مدى التّاريخ، وبه اتّسم واتّخذ معناه المميّز الذي لا يمكننا الإحاطة بأبعاده مهما توغّلنا في الحديث عنه.
إنّ ابن الله، بتجسّده، وحّد في ذاته السماءَ والأرض،
ووحّد الخالقَ بخليقته.
لذلك، بموته لأجل خطايا البشر،
ماتت البشرية الخاطئة كلّها فيه ومعه،
وأُزيلت بموته الخطيئةُ وامّحَت.
وبقيامته من بين الأموات،
قامت البشريّة كلّها فيه ومعه،
وشاركته في حياته الجديدة.
وبصعوده إلى السماء وجلوسه إلى يمين الله الآب،
أعيدت البشريّةُ فيه ومعه إلى بهائها الأوّل.
البشريّة كلّها، بل الخليقة بأسرها،
هي فيض من محبّة الله الثّالوث،
وفي المسيح الإله أُعيدت إلى الله الثّالوث.
إلى هذه النظرة تستند المسيحيّة في قولها إنّ الأسرار تَحمل نعمةَ الله وحياتَه. فإنّ مادّة الأسرار ليست الخليقَة الخاطئة بل الخليقةُ التي اتّحدت بالله في تجسّد المسيح، وقامت معه بقيامته، وامتلأت من حياته بصعوده إلى السماء. وبما أنّ المادّة قد امتلأت من الحقيقة الإلهيّة، ففي وسْع قطعةٍ من الخبز أن تصير إفخارستيّا وقرباناً مقدّساً، فتحمل الإله الحيّ وتوزّعه، وفي وسع بعضٍ من الماء أن يصير، بالمعمودية، قناةً لحياة الله والتماثل مع المسيح، ونقطةٍ من الزّيت، في الميْرون، أن تمنح الروّح القدس، وإيقونةٍ أن تكون سرّ المسيح وحاملة الروح.
في التجسّد صار المسيح جوهرَ البشريّة ومحورَ الخليقة المرتبطَ بجميع الكائنات. إنّ التجسّد هو عملُ محبّةٍ محض، أراد الله أن يصير واحداً مع خليقته.
لقد أعلن آباء الكنيسة الشرقيّة مراراً أنّ التجسّد غير مرتبط بخطيئة الإنسان، بل بمحبّة الله. أي إنّه، وإن لم يخطأ الإنسان، لكان اللهُ الكلمةُ تجسّد. فالله قد خلق العالم بدافع من محبّته، وليس عن حاجة إليه. إنّه بحق يُدعى "المحبَّ البّشر" الذي يحبّ خليقته وكلّ وجه بشريّ في هذا العالم. إنّ ما حمله على التجسّد ليس حاجة البشريّة الخاطئة إلى الخلاص، بل فيض محبّته التي أراد أن يُغدِق بها على النّاس، ودفق حيته التي أراد أن يملأهم بها. لقد صار الله جسداً، رغبة منه في أن تتجلّى ألوهيّته في البشريّة التي خلقها وقَصد منذ الأزل أن تكون هي المقرّ المصطفى لسكناه والمكان المحبوب لحضوره.