الفصل الأول
"يا معلم، ماذا عليّ أن أعمل من الصلاح؟" (متّى 16:19)
السيد المسيح والجواب على المسألة الأخلاقية
انطلاقا من حوار الشاب الغني مع السيد المسيح حول "ما يجب فعله من الصلاح للحصول على الحياة الأبدية"، يؤكد البابا المبادئ التي سيرتكز عليها للإجابة على بعض المسائل الأخلاقية في الفصل الثاني. ويمكننا إيجاز هذه المبادئ في النقاط التالية:
1) "إن سؤال الشاب الغني قبل أن يكون سؤالا حول قواعد يجب تطبيقها هو سؤال حول ملء معنى حياته" (7). فالتوق إلى المطلق هو مصدر كل قرار يتّخذه الإنسان وكل عمل يقوم به.
2) سؤال الشاب الغني يدور على الخير والشر, أي على الأعمال الصالحة التي يجب على الإنسان فعلها، وعلى الأعمال الشريرة التي يجب عليه تجنّبها: "ماذا علي أن أعمل من الصلاح؟" والسيد المسيح وحده يعلّمنا الحقيقة حول ما هو صالح وحول العمل الأخلاقي.
3) إن السيد المسيح في جوابه: "إنما الصالح واحد وهو الله", يؤكد أن ما هو صالح لا يمكن أن يجده الإنسان إلا في التفاته الدائم إلى الله الذي هو وحده الغاية القصوى لكل عمل إنساني وسعادة الإنسان الكاملة. لذلك لن يصنع الإنسان الخير إلا بقدر ما يعكس مجد الله الذي خُلق على صورته ومثاله. وما الحياة الأخلاقية إلا جواب محبة من قبل الإنسان على محبة الله والاعتراف الدائم بقداسة الله التي ظهرت في شخص السيد المسيح.
4) الله وحده يستطيع أن يحدّد للإنسان ما هو صالح وما هو خير. وقد فعل ذلك عن طريقين: الطريق الأولى هي "الناموس الطبيعي" الذي وضعه الله في قلب الإنسان في ضميره منذ أن خلقه, وبواسطته يستطيع الإنسان أن يعرف الخير الذي يجب عليه فعله والشر الذي يجب عليه تجنّبه. والطريق الثانية هي "الوصايا العشر" التي بها تمّ إنشاء شعب العهد. وهذه الوصايا قد أظهر السيد المسيح في عظته على الجبل أن الإنسان يستطيع من خلال العمل بها أن يجسّد محبته لله ومحبته للقريب, هاتين الوصيتين اللتين بهما يتعلق الناموس كله والأنبياء. والسيد المسيح في ذكره الوصايا يكتفي ببعض منها: "لا تقتل، لا تزن، لا تسرق, لا تشهد بالزور, أكرم أباك وأمّك، وأيضا: أحبب قريبك كنفسك". فهذه الوصايا المتعلّقة بمحبة القريب واحترام حياته وكرامته وممتلكاته هي التعبير العملي عمّا تعنيه للإنسان الوصية الأولى: "أنا هو الرب إلهك" التي هي "النقطة المركزية" للوصايا العشر (13). ويذكّر البابا بما جاء في "التعليم المسيحي الكاثوليكي": "إن الوصايا العشر هي من وحي الله. وهي تعلّمنا في الوقت عينه إنسانية الإنسان الحقيقية. وتُبرز إلى النور الواجبات الجوهرية. وبالتالي, وبشكل غير مباشر, الحقوق الأساسية التي هي من صلب الطبيعة البشرية". "فهي إذا الشرط الأساسي لمحبة القريب، وبها يظهر في الوقت عينه صدق تلك المحبة. إنها المرحلة الأولى الضرورية على طريق الحرية، وبدايتها" (13), فبدون تتميم الوصايا التي هي تجسيد لمحبة القريب, "لا وجود ممكن لمحبة حقيقية لله" (14). وقول السيد المسيح، في مثل السامري الرحيم, لعالِم الناموس حول وصيتي محبة الله ومحبة القريب: "إفعل هذا فتحيا" (لو 10: 28)، يعني أن "الحصول على الحياة الأبدية غير ممكن دون ممارسة الوصايا" (14).
5) لقد أوضح السيد المسيح في عظته على الجبل أنه لم يُلغ الوصايا: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء, إني ما جئت لأنقض بل لأكمل" (متّى 17:5). وكمال الوصايا يقوم على المحبة التي تدفع الى القيام بها. "إن محبة القريب تصدر من قلب يحب, ولأنه يحب فهو مستعد إلى أن يحيا بحسب أرفع ما تقتضيه تلك المحبة. وقد بيّن يسوع أن هذه الوصايا يجب ألا تعتبر حدا أدنى يمكن الاكتفاء به، بل بالحري طريقا مفتوحا لمسيرة أخلاقية وروحية نحو الكمال, الذي قلبه المحبة (راجع كو 3: 14). هكذا تصير وصية "لا تقتل" دعوة إلى محبة سريعة إلى مساندة حياة القريب وتعزيزها. والوصية التي تنهى عن الزنى تصير دعوة إلى نظرة طاهرة قادرة على احترام المعنى الزوجي للجسد" (15).
6) وعندما قال الشاب: "كل هذا قد حفظته، فماذا ينقصني بعد؟", أجابه يسوع: "إن شئت أن تكون كاملا، فاذهب وبع مالك، وأعطه للمعوزين, فيكون لك كنز في السماوات, ثم تعال اتبعني". إن جواب يسوع هذا تجب قراءته في منظار التطويبات التي هي جزء أساسي في تعليم يسوع الأخلاقي، وهي في الوقت عينه وصف شخصي لحياة السيد المسيح. لذلك فإن قمة العمل الأخلاقي في المسيحية هي اتّباع السيد المسيح: "تعال اتبعني"، والاقتداء به: "هذه وصيتي: أن يحب بعضكم بعضاً كما أحببتكم أنا" (يو 15: 12). وهذا العمل، مهما بدا مستحيلا, يصير ممكنا بنعمة الله، أي بالروح القدس الذي يفيضه الله في قلوبنا، والذي به تستنير حرية الإنسان, بحيث تصير حياته جواب محبة شخصيا على محبة الله له.
7) يعود للرسل ولخلفائهم تفسير وصايا الله وتعاليم المسيح والسهر على مسلك المسيحيين القويم, إلى جانب المحافظة على صحة الإيمان والعقيدة. فبين الإيمان والحياة تناغم لا يجوز قطعه. وكما يقول المجمع الفاتيكاني الثاني: "إن مهمة تفسير كلمة الله المكتوبة أو المنقولة تفسيرا صحيحا قد أوكلت فقط إلى السلطة التعليمية الحية في الكنيسة، التي تمارس سلطانها باسم يسوع المسيح" (في الوحي الإلهي، 10). وهذه السلطة التعليمية ترى من واجبها تقديم تعليم الأخلاق، لتساعد الإنسان في مسيرته نحو الحقيقة ونحو الحرية.