كتاب فن الحياة للأب متى المسكين
أولاً: نبدأها بالأبوَّة كأول فنون الحياة بلا منازع لتسليم سر الحياة والنضوج:
لقد أبدع بولس الرسول حينما أرجع كل أبوَّة إلى أصلها الخالق “الآب السماوي” حينما قال: «أحني رُكبتيَّ لدَى أبي ربنا يسوع المسيح. الذي منه تُسمَّى كل أُبوَّة (= patri£ وليس عشيرة) في السموات وعلى الأرض» (أف 14:3و15). وقد استولى الابن على حضن الآب: «الابن الوحيد الذي هو في حضنِ الآب هو خبَّرَ» (يو 18:1). وهذا كلام الرب يسوع الابن الوحيد المحبوب نفسه ليعبِّر عن حب الآب للابن، الحب الكلِّي والمطلق الذي ليس له حدود. والعجب العجاب، إنْ كان في حب الآب أو حب الابن، أن عاد المسيح يطلب من الآب في نهاية إنجيل ق. يوحنا: «وعرَّفتهم اسمك وسأُعرِّفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به» (يو 26:17)، “عرَّفتهم” قبل الصليب، و“سأُعرِّفهم” بعد القيامة بواسطة الروح القدس “الذي يأخذ مما لي ويستعلنه لكم” (يو 14:16). هذا نسمع صداه في قول الرب يسوع أيضاً حينما قال عن حب الآب للعالم: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 16:3). فنداء المسيح قبل الصليب للآب «ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به» هو تحصيل حاصل مما في قلب الآب: «هكذا أحب الله العالم» عالم الإنسان.
هذه لمحة عن أصل الأبوَّة ومنهجها وعلوّها واتساعها، قد أُعطيت صورتها للإنسان الذي خُلق جديداً على صورة خالقه ليحاكي الله في أبوَّته حبًّا وحناناً وبذلاً لوليده الذي سيستلم منه الحياة بل والأبوَّة ذاتها، فما أسرع ما سيكون أباً ويلد البنين والبنات. فالأبوَّة أول وأعظم تسليم يُسلِّمه الإنسان لابنه حينما يُسلِّمه الحب والحنان والبذل، وهو حق الابن الأعظم عند أبيه.
فالأبوَّة أعظم أسرار الحياة بحسب مصدرها، كما قال ق. بولس، فالله أصل كل أبوة ومُعطي كل مواهبها. وأول المواهب التي يهبها الله للأب البشري هي أن يُسلم بدوره الأبوَّة لأولاده ليبقى الله “أبا الجميع”.
والمسيح ألمح إلى ذلك لمَّا علَّمنا الصلاة الوحيدة «فقال لهم: متى صلَّيتم فقولوا أبانا الذي في السموات» (لو 2:11)، «ولا تدعوا لكم أباً على الأرض لأن أباكم واحد الذي في السموات» (مت 9:23). فالأب البشري هو صورة إنسانية مصغَّرة للآب السماوي الأعظم، لهذا أصبح هو المسئول عن حفظ هذه الأُبوَّة في القداسة والكرامة. وما تعليم الابن وتهذيبه في إطار الحب الأبوي إلاَّ لكي يكون مؤهَّلاً أن يحمل رسالة الأُبوَّة من جيل إلى جيل.
وهنا تأتي (أصول التعاليم التي على الأب أن يُسلِّمها لابنه):
فعلى الأب أن يسلك في الأسرة أمام أولاده صغاراً أو كباراً كإنسان يخاف الله، فيتعلَّمها الأولاد حينما يرون الأب في صلاته لله خاشعاً خاضعاً مكرِّماً وممجِّداً اسمه القدوس بكل هيبة ووقار، بسجود متواتر لكي ينتقل السجود من وضعه الجسدي لوضعه الروحي حينما يتمادى الأب في سجوده فتظهر حرارة الروح مع الإخلاص.
ولا مانع من أن يجعل ابنه الصغير يقف بجواره ويتعلَّم الوقوف والسجود حتى ينطبعا في ذهنه طول حياته، وبالأكثر حينما يتلو مزاميره بصوته الشجي لتمتلئ مسامع الطفل بتسابيح العليّ وهو صغير.
كما على الأب أن يكون سلوكه مع الأُم والخدم وبقية الناس الذين يتعامل معهم بالصدق الشديد وتوقير اسم الله.
لا يحلف ولا يكذب ولا يقبل أن يسمع الكذب ويعاقب كل مَنْ يكذب أو يحلف أو يشتم، معلِّلاً ذلك بأنه بسبب هذه الأمور يأتي غضب الله على البيت ويتعثَّروا في حياتهم.
فالأب مسئول عن تعثُّر أولاده أو عدم نجاحهم لأنه لم يعلِّمهم مخافة الرب وعبادته بإخلاص حتى ترافقهم قوة الله وإرشاده في كل حياتهم «أمَّا أنا وبيتي فنعبد الرب» (يش 15:24). فنجاح الأولاد يعتمد على قيادة الرب، وقيادة الرب تبدأ بالأب وتمتد إلى الأولاد.
والأب يبدأ بتربية ابنه وهو رضيع، فأولاً يُظهر له عطف الأب، وبعد الرضاعة يتدخَّل في سلوكه فيُظهر له الحب والمودة كلّما استجاب للتوجيه، فإذا خالف يُظهر الجفاء وعدم الرضا. فإذا أذنب يبدأ العقاب بالضرب على ظهر اليدين والرجلين.
وحذار من ضرب الولد على الخد لأنها مهانة وتسيء إلى نفسيته، كذلك حذار من ضرب الولد على مؤخِّرة فخذيه لأن ذلك خطر فهو ينبِّه الشعور الجنسي مبكِّراً، وكذلك حذار من تقبيل الولد في الشفتين فهذا فوق أنه جريمة صحية تنقل إليه العدوى وميكروبات الفم فهي كذلك تنبِّه شعوره الجنسي أيضاً. فالتأديب بالضرب لا يزيد عن ظهر اليد أو الرجل ليس بنوع التأليم ولكن بتصوير العقاب، مجرَّد تصوير.
فإذ صار الولد يافعاً، فهنا يقتصر التعليم والتأديب على الإيجابيات بالمجالسة والمحادثة والقصص والخروج مع الولد للنزهة كنوع من المؤاخاة على حسب المثل: إذا كبر ابنك آخيه، أي أشركه معك في دانا قليل الاداب يا مستر اطردنىك وخروجك ليتعلَّم الرجولة ومؤانسة الآخرين.
ويبدأ تلقين الولد النصائح والأمثلة الدينية بمجرَّد نضوج العقل قبل أن يتلقَّن الكلام والأمثال الخارجة عن حدود التربية الروحية. وليعلم الأب أن تلقينه للابن سواء في الروحيات أو قصص الحياة وخبراته وأخبار آبائه وأجداده يجعلها تثبت في الذهن أكثر من أي تعليم لأي شخص آخر، لأن إحساس الابن بالأب إحساس توقير وتعظيم واحترام، فكلام الأب يؤثر في نفسية الصبي والشاب الصغير كمثل كلام الإنجيل من جهة الثقة. لذلك فعلى الأب أن يغرس بذور الإيمان والعقيدة في نفسية الولد وسوف تبقى في ذاكرته طول الحياة.
أمَّا تهذيب النفس من جهة الرجولة ومؤانسة الآخرين فهي من خصائص روح الأبوَّة التي يثبتها الأب في نفسية ابنه، فينشأ شاباً شجاعاً لا يهاب مقابلة الناس أو التحدُّث إلى الآخرين، لأن الأب يضطلع بدور تسليم شخصيته لابنه مضافاً إليها ما اكتسبه من الحياة والخبرة وعلاقته بالله.
أمَّا الثقافة والعلوم واتساع المدارك فهذا موكول إلى المدرسة والجامعة، ولكن على الأب أن يسهِّل على ابنه اقتناء المجلات الدينية والاجتماعية وأُمهات الكتب التربوية والتاريخية لدراسة أفكار عظماء البشرية في التصوير أو الموسيقى أو الرحلات أو اقتناء الألبومات وغيرها من الهوايات، فيستزيده منها لأن المواهب هي عطية ربَّانية وعلى الأب استزادتها وتهذيبها في الحدود اللائقة.
وعلى الأب أن يدرِّب ابنه من الصغر على أن يعتبره أصلح أب اعتراف له ليُسِرَّ إليه بكل أتعابه وعلاقاته بالآخرين ليسهر على توجيهه وتحذيره من المخاطر.
أمَّا الآباء الذين يهملون رعاية أبنائهم من الصغر ويتركونهم للظروف وزملاء السوء، فإن هم صرخوا إلى الله من سوء حالهم بعد ذلك فلن يسمع لهم الله، لأنهم هم الذين تسبَّبوا في ضياعهم. فالأب مسئول عن ابنه حتى إلى الشيخوخة، لأن كلمة الأب هي من روح الله وهي قادرة بالله للحفاظ على عفة الولد وطهارته واستقامة شبابه ورجولته.
واحذر أيها الأب أن تشتكي أولادك لأي إنسان كان قريباً كان أو ضيفاً، لأنك بذلك تضع حاجزاً بينك وبين ابنك فلا يعود يثق فيك ولا يعتمد عليك، لأنك - دون أن تدري - تنشئ بذلك خصومة بينك وبين نفسه هيهات إن استطعت رفعها، بل وتزيد مع الزمن. فإن كان لك على ابنك ملاحظة أو شكوى فاجلسا معاً سرًّا وأفصح له بها واطلب منه أن يُريح قلبك بالكف عن الخطأ وارفق هذا بالصلاة من أجله ليتدخَّل روح الله ويُصلح حاله، فتكسبه لله ولنفسك ولنفسه هو أيضاً، لأن طريق الله والصلاة والصراحة مع المحبة والثقة لا تخيب.
بل وعلى النقيض تعوَّد أن تمدح ابنك أمام أُمه وإخوته والأقارب والضيوف فترفع من نفسيته ويزداد ثقة بك ويحاول أن يكون دائماً عند حسن ظنك به. وكما تمدحه أمام الناس سيمدحك هو أيضاً ويفتخر بأُبوَّتك. وهكذا تتوثَّق العلاقة بينكما ولصالح الله والحياة الروحية السليمة.
وليت ابنك وكل أولادك يشبّون دون أن يكون في المنزل تليفزيون لأنه غريمك الذي سيعلِّمه بعكس ما تشتهي وبعكس ما يشتهي الله. فلا تُدخِل أولادك في تجربة تسوقهم للهلاك وتكون مسئوليتك للدينونة لا شفيع فيها.
كما وعليك أن تتجنَّب السهرات الماجنة سواء في بيتك أو في بيت غيرك لأن فيها خسارة نفسية كبيرة لكل مَنْ يشترك فيها، ووراءكم مَنْ يَعدّ خطاياكم، بل وهذه هي الخطايا التي ستتقدَّمكم للدينونة لأنها شهوة وإرادة وإصرار، فأي عذر لكم!
بل وبالعكس أقم في بيتك ولأسرتك ليالي تسبيح وترتيل وصلاة تجمع العائلة كلها فتفرحوا بالرب ويفرح الرب بكم لأنه وعد أن يكون وسطكم، فأي مجد هذا لكم.
فإذا حضر الرب وملأ اسمه البيت والقلوب، فقد تحصَّن البيت ضد تجارب العدو وربحت الأسرة حضور الرب.