لما تم الزمان ظهر الله الكلمة متجسدا
بقلم المتنيح الأنبا غريغوريوس
في التاسع والعشرين من شهر كيهك المبارك تحتفل كنيستنا القبطية الأرثوذكسية وجميع الكنائس التي تتبع التقويم الشرقي بعيد الميلاد المجيد. وقد خصصت الكنيسة هذا الشهر للتسبيح والشكر والتمجيد لله, علي اهتمامه بنا نحن البشر, إذ قد تنازل فضلا, من غير استحقاقنا, وقبل أن تكون له صورة الإنسان.اتحد بطبيعتنا, ولبس صورتنا, وظهر بيننا كأنه واحد منا, وهو ملك السماوات والأرض. إنه لم يخل السماء من وجوده حينما نزل, فوجوده يملأ السماوات والأرض. وإنما أخلي ذاته من صورة المجد, وارتضي صورة الهوان, أخلي ذاته من صورة الرب, وارتضي صورة العبد, وهو المسجود له من الملائكة ورؤساء الملائكة والمعبود من السمائيين والأرضيين,(وله تجثو كل ركبة مما في السماوات ومما علي الأرض ومما تحت الأرض)(فيلبي2:10).
لقد ارتضي الإله تفضلا, وحنانا, وتكرما, وإشفاقا علينا, واهتماما بنا, أن ينزل إلينا ليري ذلنا ويري مرارة ما وصل إليه جنس بني الإنسان, الذين خلقهم الله علي صورته ومثاله, ولكن الخطيئة أفسدت هذه الصورة وأساءت إليها, فلم يشأ الله-كما يقول القديس أثناسيوس الرسولي- أن تبقي صورته المجيدة ملطخة بالإثم وملوثة وفاسدة, فتحرك حنانه وتحرك قلبه, وتحرك تدبيره, ليخلص الإنسان ويرد له اعتباره, ويرد له كرامته ,ويرد له الصورة الأصلية التي خلقه عليها.
لذلك تجسد الله الكلمة,وفي تجسده كل الحب, وما من حب أعظم من هذا أن يقبل الإله صورة الهوان, صورة التراب, وهو رب المجد,( الساكن في نور لا يقترب منه) (1.تيموثيئوس 6:16), (والنار الآكلة) (العبرانيين12:29) لقد قبل الرب علي نفسه أن يأخذ صورة التراب, وشاء أن يتحد بها, فلا يكون اتحاده بصورة الإنسان وضعا مؤقتا, كأي ظهور لكائن روحاني يتشكل في وقت ما بشكل ما ويتركه بعد حين. لم يشأ الرب ذلك, بل رأي أن يتحد بهذا الشكل الترابي وأن يظل هذا الاتحاد باقيا دائما اتحادا كاملا, اتحادا جوهريا لا عرضيا, اتحادا أقنوميا ثابتا لا يتغير ولا يتبدل.
الشرف الذي اكتسبته البشرية بتجسد الكلمة:
فما أعظم الشرف الذي أضفاه الله علي جنسنا بتجسده المنيف, لأننا نحن صرنا متحدين به في المسيح, وصرنا نحن في المسيح لأنه أخذ طبيعتنا. بل وصارت طبيعتنا نحن فيه, ومعه ثم حملها معه إلي السماء, إذ صعد بها إلي الأعالي , وأدخلها إلي المجد.
فما أرفع الإنسان بعمل المسيح, وما أمجده, وما أشرفه, لأن الإله أخذ طبيعته.
عظيمة هي ديانتنا المسيحية بهذا التعليم المجيد:
الله ارتضي وقبل أن يأخذ صورة الإنسان, فكان في قبوله هذه الصورة أعظم حب يمكن أن يطمح إليه الإنسان, ويطمع فيه أو يمكن أن يحلم به.الله الكلمة المنقذ والمخلص, والفادي صاحب المجد والكرامة, قبل وارتضي صورة الإنسان. نزل الإله إلي الإنسان تفضلا, وتكرما والإنسان لم يكن مستحقا. وهنا عظمة الحب. مافضلك أنت إن أحسنت إلي من أحسن إليك؟(لأنكم إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم؟(متي 5:46, 47) إنما الحب الحقيقي يظهر إذا كان ثمة تنازل من الأعلي إلي الأدني, وإذا لم يكن له مقابل بل يكون من قبيل الفضل, والإحسان هكذا صنع الله الكلمة بنا.
هل كانت البشرية مستحقة لظهوره يوم أن جاء المسيح إلينا؟
كلا...إنما كانت البشرية تتطلب هذا المجئ وتستحقه, لكن لا بمعني أنها جديرة به بل تستحقه بمعني أنها في حاجة إليه.
البشرية انتظرت المخلص والمنقذ وعبرت عن ذلك بواسطة فلاسفتها وأنبيائها:
قال(سقراط)(نحو470-399ق.م) أحد كبار الفلاسفة في العصور القديمة: لا سبيل إلي معرفة الحقيقة إلا إذا ظهر رب الحقيقة وأعلن ذاته للبشر.
قال هذا بعد أن تعب سقراط من المناقشات والجدل, ومن المساجلات الكلامية عن الحق والحقيقة, بين المفكرين البارزين من بني الإنسان. فلما تناقش الناس, وتعارضوا وانقسموا, واختلفوا, قال سقراط لا سبيل إلي حسم هذا الخلاف بين البشر إلا إذا تفضل رب الحقيقة وأعلنها بذاته للبشر.
فسقراط الوثني كان بمثابة نبي في العالم الوثني, أنبأ بحاجة البشرية إلي هذا المخلص, وإلي هذا الحق الذي يكشف ذاته للبشر.
تنبأ عنه الشاعر الروماني(فرجيل)virgilius (71-19ق.م) وهو أعظم شعراء روما مؤلف ملحمة الإنياذةeneide , وقال: (العذراء عائدة الآن....وينزل جنس إنساني جديد من علا السماوات. وهذا يتحقق بميلاد طفل به ينتهي عصر الإنسانية الحديدي, وبه يبدأ عصرها الذهبي).
وقد خاطب فرجيل هذا الطفل المنتظر قائلا من أجلك, أيها الطفل, تأتي الأرض بعطاياها, طواعية, ومن دون حرث. ومن عهدك تنبعث الزهور المزمنة الحامية. أما الحية فسوف تموت).
وكان(زرادشت) zoroaster (توفي حوالي 583ق.م) وهو نبي الفرس الأقدمين وأصله من أذربيجان, وهو زعيم المجوسية في منتصف القرن السابع قبل الميلاد, كما يروي العلامة ابن العبري في كتابه(تاريخ مختصر الدول) قد أخبر ذويه بظهور (المسيح الملك) وأمرهم بأن يحملوا إليه قرابينهم عند ظهوره, وأنبأهم بأنه في آخر الزمان يكون أن بكرا تحبل بجنين من غير أن يمسها رجل. وعند ميلاده, يظهر بالنهار كوكب, تري في وسطه صورة صبية عذراء. وأنتم يا أولادي ستحسون بظهوره قبل جميع الأمم. فإذا شاهدتم هذا الكوكب, فاذهبوا معه إلي حيث يقودكم, واسجدوا لذلك المولود, وقربوا إليه قرابينكم, فهو الكلمة مقيم السماء.
وجاء في الكتاب المقدس أن(نبوخذنصر) ملك بابل(605-562 ق.م) وهو وثني رأي حلما وانزعجت له روحه: رأي وإذا بتمثال عظيم كثير البهاء, ومنظره هائل. رأس هذا التمثال من ذهب خالص, وصدره وذراعاه من فضة, وبطنه وفخذاه من نحاس, وساقاه من حديد, وقدماه بعضهما من حديد والبعض الآخر من خزف...ثم نظر الملك, فإذا حجر انقطع لا باليدين ,فضرب التمثال علي قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما, فانسحق الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معا, وصارت كعصافة البيدر في الصيف, فحملتها الريح, فلم يوجد لهما مكان. أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلا كبيرا وملأ الأرض كلها. وقال النبي دانيال في تفسير هذا الحلم الذي أغلق تفسيره علي جميع حكماء بابل إن الحجر الذي انقطع لا بيدين فسحق الحديد والنحاس والخزف والفصة والذهب, يرمز إلي ميلاد ملك, مملكته لن تنقرض أبدا, وملكه لايترك لشعب آخر, إنها تسحق وتفني جميع الممالك, وهي تثبت إلي الأبد).(دانيال 2:1-45).
كذلك الإمبراطور(أوغسطس قيصر) augustus (63ق.م-14م) رأي حلما روعه, رأي نقطة من الزيت نزلت من السماء, ولم تلبث أن كبرت طولا وعرضا حتي صارت بركة أو بحيرة صغيرة ثم كبرت البركة, فصارت نهرا, وكبر النهر فصار بحرا, وكبر البحر فصار محيطا, وأخذ الماء في المحيط يعلو ويعلو حتي غطي الأرض كلها ووديانها وجبالها حتي وصل علوه إلي السماوات, وأحس الإمبراطور أنه قد غرق هو نفسه واستيقظ مذعورا, ولم يفهم لهذا الحلم معني, فجمع العلماء وسألهم التفسير, فأنبأوه أن هذا الحلم نذير أو بشير بميلاد إله تغطي ديانته وعبادته الأرض كلها والسماء...ولما لم يتوصل إلي حقيقة هذا الإله الجديد, أمر أن يقام له في كل أنحاء الإمبراطورية, مذبح ويكتب عليه(إلي الإله الذي لا نعرفه). فلما ذهب القديس بولس إلي أثينا ورأي هذا المذبح والمكتوب عليه, وقف في وسط الأرياباغس وقال:يا أهل أثينا...في مروري ومعاينتي لمعبوداتكم وجدت مذبحا مكتوبا( إلي الإله الذي لا نعرفه, فهذا الذي تعبدونه ولا تعرفونه, هو الذي أنا أبشركم به) (أعمال الرسل 17:22, 23).
وواضح من حلم أوغسطس قيصر الذي في عهده ولد المسيح له المجد(لوقا2:1), إنه هو نبع الزيت الذي نزل من السماء, ثم كبر وعلا حتي غطي الأرض كلها والسماوات, وهو ما يشير إلي امتداد ملكوته أو مملكته فهو كما قال عنه الملاك للعذراء مريم(ويملك...إلي الأبد, ولا يكون لملكه نهاية)(لوقا1:22).
وإلي جانب الأمم الوثنية كانت هناك أمة بني إسرائيل التي اختارها أو تخيرها الله في وقت ما لكي تكون عينة من عينات البشر يجري فيها وبها تدبير الخلاص, فقد عبر أنبياء العهد القديم عن حاجة بني الإنسان إلي المخلص وإلي الفادي, كلهم تحدثوا عن هذا المجئ وتوقعوه, وحيوه وأنبأوا به. فمنهم من قالأراه, ولكن ليس الآن, أبصره ولكن ليس قريبا, يبرز كوكب من يعقوب, يقوم صولجان من إسرائيل) (سفر العدد24:17) ومنهم من قال (خلاصك انتظرت يارب) (التكوين49:18) ومنهم من قال بفم الرب(بدم عهدك قد أطلقت أسراك من الجب الذي لا ماء فيه. ارجعوا إلي الحصن يا أسري الرجاء)(زكريا9:11, 12) والمقصود بالجب الذي لا ماء فيه هو الجحيم الذي انطلقت إليه أرواح القديسين في العهد القديم وظلوا فيه هناك محبوسين, لأنه لم يكن مباحا بعد للإنسان أن يقترب من الفردوس المغلق في وجه الإنسان بسبب الخطيئة التي ارتكبها آدم وحواء.
وإن حنة ابنة فنوئيل. وكانت قد ظلت أرملة مدة أربع وثمانين سنة, لاتبرح الهيكل, متعبدة بالصوم والصلاة ليلا ونهارا, إذا رأت المسيح يسوع وهو طفل في حضن العذراء مريم, في يوم الأربعين لميلاده, تقدمت نحوه, وأخذت تحمدالله بشأنه, وتحدث عنه كل من كان ينتظر الخلاص في أورشليم وكذلك سمعان الشيخ حمله علي ذراعيه, وبارك الله ثم قال:الآن أطلق ياسيدي عبدك بسلام وفقا لكلمتك, فإن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته أمام كل الشعوب, ونورا يتجلي للوثنيين, ومجدا لشعبك إسرائيل...ثم قال لمريم أمه:إن هذا قد جعل لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل...(لوقا 2:25-38).
لقد جاء الوقت الذي تفقد الله فيه شعبه ليفتديه, وأشرق علي الجالسين في الظلمة نوره, وظهر, وفي ظهوره فتح باب الرجاء أمام النفوس البائسة.فبنو إسرائيل وأنبياؤهم جميعا,عبروا عن حاجة البشرية إلي هذا المخلص, وإلي هذا الفادي الذي بمجيئه يكون الخلاص والفداء للإنسان ورجوعه إلي الفردوس الذي كان مغلقا في وجهه, بعد أن سقط في الخطيئة الأب الأول آدم, وفيه ماتت كل ذريته من بعده.
فاليهود إذن وغير اليهود من الأمم ومن الوثنيين, هؤلاء وأولئك جيعا عبروا عن حاجة البشر إلي الخلاص. ومن أجل هذا جاء المسيح. وهو الله الكلمة- في الوقت الذي اشتدت فيه الحاجة إليه وتحقق جميع الناس ذلك.
لذلك قال الكتاب المقدسفلما تم الزمان, أرسل الله ابنه مولودا لامرأة, مولودا في حكم الشريعة ليفتدي(=ليشتري من جديد) الذين هم في حكم الشريعة, فنحظي بالتبني(=حتي نصير نحن أبناء الله)(غلاطية 4:4).
فمجئ المسيح برهان حبه لنا, ولطفه بنا, وعنايته واهتمامه بجنسنا(فبفضل رحمة إلهنا تفقدنا المشرق من العلاء) (لوقا1:78) لقد جاءنا وعاش معنا, وعاش ظروفنا وأحوالنا, ولمس متاعبنا لا لأنه كان جاهلا بطبيعتنا, ولا لأنه كان غير عارف بظروفنا وآلامنا, إنما لكي يشعرنا نحن بأنه أبونا وراعينا, وأنه مهتم بنا لذلك جاء إلينا.