--------------------------------------------------------------------------------
هل عند الله محاباة بقلم المتنيح: الأنبا غريغوريوس
هل عند الله محاباة
بقلم المتنيح: الأنبا غريغوريوس
سؤال:هل عند الله محاباة وتمييز, مع أن الكتاب المقدس يقول إنه يحب العالم كله ويشرق شمسه علي الأشرار والأبرار؟
الجواب:
الله نفسه هو الذي يجاوب عن هذا السؤال لأنه في أكثر من موضع يقول: إن الله لا يحابي بالوجوه, ولماذا الله يحابي بالوجوه؟ الإنسان أحيانا يحابي بالوجوه لأنه قد يخاف من أحد فيعمل حسابه فيتملقه ويداهنه, لأن له مصلحة عند هذا الإنسان فيتملقه تحقيقا لهذه المصلحة, لكن الله هو خالقنا جميعا وسيدنا كلنا وأبونا كلنا,فلا يمكن أن يكون هناك شبه شك في عدالة الله, وأننا جميعا أمامه سواء بل يمكن أن أقول أكثر من هذا, إن الله كراع صالح يظهر رحمة وحنانا وعطفا علي الضعيف أكثر مما يظهره علي القوي, ولذلك كان أسلوبه واضحا في معاملة كبار القديسين والأنبياء بشئ يبدو أنه قسوة أكثر مما يبدو أنه محاباة, فموسي النبي الرجل الذي شهد عنه الله نفسه, وجميع الذين علي الأرض, واحتمل متاعب بني إسرائيل بصورة عجيبة, لدرجة أن الله أظهر نفسه في بعض المواضع علي أنه يريد أن يبيد بني إسرائيل, وأن موسي النبي هو الذي كان يطلب من الله أن يطيل أناته وأن يرحم بني إسرائيل, فالله الذي يقول لموسي:اتركني ليحمي غضبي علي هذا الشعب, كما لو كان موسي هو الذي يمنعه, موسي هذا الذي شهد عنه الله هذه الشهادة, وأبرز الكتاب المقدس كيف احتمل بني إسرائيل ومتاعبهم, علي الرغم من أنه كان رجلا شيخا, فحينما بدأ موسي يحمل متاعب بني إسرائيل كان سنه80سنة, هذا الرجل الشيخ في مرة نفسه تعبت فبدلا من أن يكلم الصخرة كما أمره الله, فضرب الصخرة وكلم بني إسرائيل في غضب شديد وأخرجت الصخرة ماء, لكن مع هذا وبسبب هذا الخطأ حرم موسي النبي من أن يدخل ببني إسرائيل إلي أرض الموعد, أراد الله أن يعطيه درسا فقال له ستصعد فوق الجبل وتري أرض الميعاد لكن أنت لا تدخلها لأنك أخزيتني أمام بني إسرائيل, هذا موقف يرينا أن الله لا يحابي, بل ربما علي العكس يبدو نحو الأتقياء والقديسين, أشد حزما وأقسي في معاملته, وهذا برهان علي أن الله لا يحابي, لأنه لو كان يحابي لكان المنطق يقتضي أن يعامل أمثال موسي النبي معاملة رقيقة, إنما علي الرغم من تقواه وفضيلته ومتاعبه لم يعامل من الله معاملة رقيقة, إنما عومل معاملة يبدو فيها قسوة لاتبدو بالنسبة لغيره من الضعفاء والصغار, والله نفسه قال إنه يشرق شمسه علي الأشرار والصالحين ويمطر علي الأبرار والظالمين.لا أعلم ما في فكر صاحب السؤال ربما يكون في ذهنه بعض تفسيرات جاءت في الكتاب المقدس, مثل ما جاء في رسالة ماربولس إلي رومية عندما قال:أحببت يعقوب وأبغضت عيسو وعندما قالالله يرحم من يشاء ويقسي من يشاء ربما صاحب السؤال في ذهنه شئ من هذا القبيل, قد يقول :كيف أن الله يقول أحببت يعقوب وأبغضت عيسو قبل أن يولد يعقوب وقبل أن يولد عيسو, كأن الله قبل أن يولدا اختار يعقوب ورفض عيسو, بعض الناس تفهم خطأ وبناء عليه يبنوا أحكامهم, ويقولون إن هذا دليل علي أن الله عنده محاباه, أو التعبير الذي قاله بولس الرسول أن الله يرحم من يشاء ويقسي من يشاء. ولكن لو دخلنا إلي أعماق الموضوع وفحصناه فحصا أدق, لتبين لنا شئ آخر أن الله خالقنا وهو يعرف الماضي والحاضر والمستقبل, والأدق أن يقال إن الله ليس عنده حاضر ولا ماضي ولا مستقبل, كل شئ عنده معروف وكل شئ عنده حاضر, بالنسبة لك أنت كإنسان ذي مخ محدود لا يقدر أن يفكر إلا في موضوع واحد في وقت واحد, لأن العقل البشري صغير ومحدود, فاللحظة التي أنا أفكر فيها الآن في موضوع أمامي, هذا بالنسبة لي الحاضر, وبعد دقيقة واحدة أتركه لأفكر في نقطة أخري,فالشئ الذي كان حاضرا أصبح ماضيا, والشئ الذي سأفكر فيه بعد دقيقة واحدة بالنسبة لي مستقبل, فالماضي والحاضر والمستقبل هذه تعبيرات تتمشي مع الكائن المحدود وهو الإنسان. لأن الإنسان كمحدود لايقدر أن يفكر في أكثر من موضوع واحد في وقت واحد. نظرا لأن مخه ضيق وطبيعته أنه محدود, أما بالنسبة لله فلا يوجد عنده ماضي أو حاضر أو مستقبل, لأن الله غير محدود, ربما من الصعب علينا أن نتصور هذا, وهذا أمر نحن معذورون فيه لأن عقلنا محدود, ونحن لانقدر أن نتصور غير المعروف, لكن الله غير محدود فلا ماضي ولا حاضر ولا مستقبل عنده, وبناء علي هذا يعقوب وعيسو قبل أن يولدا, قبل وبعد, ذلك بالنسبة لي أنا الإنسان, أما بالنسبة لله لا يوجد لا قبل ولابعد, كل شئ حاضر لأنه يسع الكون وما أبعد من الكون, الله لايحيا في زمان, ولذلك في القداس الغريغوري نقول:غير الزمني, وإذا شئت أن تقول بلغة إشعياء النبي:لا أول له ولا آخر, لأن الله أزلي أبدي, فكلمة قبل أن يولد عيسو وقبل أن يولد يعقوب هذا بالنسبة لنا نحن, يوجد قبل ويوجد بعد, أما بالنسبة لله غير الزمني الذي لا أول له ولا آخر, ليس له نهايات أبدا فهو أزلي أبدي سرمدي.
فعندما قال: أحب يعقوب وأبغض عيسو, ليس محاباة ليعقوب, هذا كلام خطأ أن نقوله عن الله, لماذا يحب يعقوب أكثر من عيسو من قبل أن يولدا, ماذا سيستفيد الله من يعقوب أو عيسو, هذا النوع من التفكير خاطئ أن ينسب إلي الله, إنما الواقع أن الله لأن المستقبل حاضر أمامه, قد يبدو أنه مستقبل بالنسبة لنا, لكنه بالنسبة لله هو حاضر فهو يعرف أن يعقوب يختار لنفسه طريق الاستقامة وطريق الطهارة وطريق التقوي وطريق الله, بينما عيسو سيختار لنفسه طريق الشر وطريق الخطيئة, الله لا يتحكم في مصير يعقوب أو في مصير عيسو, الله يريد جميع الناس يخلصون وإلي معرفة الحق يقبلون, كلنا أولاده ولذلك عمل الوصايا والتعاليم, وقال:ها أنا جعلت أمامكم الحياة والموت فاختاروا لأنفسكم الحياة لتحيوا الله يريدنا أن نكون أبرارا وقال مرة أخري: هل يشاء الله أن يهلك أحد, الله لا يمكن أن يفرض علي يعقوب أن يكون بارا, هذا كلام غير معقول لا يتناسب مع جلال عظمته, لأننا كلنا خليقته, ولا يتناسب مع العدل الإلهي حتي الإنسان الفاضل التقي لا يمكن أن يفرق بين أولاده, إلا علي أساس أن هذا الولد مطيع ومؤدب, هذا الأب لا يقبل أن ينسب إليه أنه ظالم من نحو أولاده, فكيف ترتضي لنفسك أن تنسب هذا إلي الله؟ الله لا يمكن أن يحب يعقوب إلا إذا كان يعقوب اختار لنفسه طريق الفضيلة, ولذلك أحبه قبل أن يولد لأنه عارف أن يعقوب سيختار لنفسه هذا الطريق, فالكتاب المقدس قال لنا هذا الكلام لأنه مبني علي سابق علم الله, وعلي أن الله يحيا في غير زمان, لذلك فإنه يعرف مستقبل الإنسان ويعرف اختيار الإنسان لنفسه, ولما قال أنه يرحم من يشاء ويقسي من يشاء, لا تظن أبدا أن المسألة مبنية علي نوع من التحكم,لا..حاشا لله أن يتحكم بهذا المعني الردئ السيئ الذي لا يقبله إنسان علي نفسه, هذا الوضع الذي لا ترتضيه لإنسان كيف تنسبه لله؟ الله لا يمكن أن يتعسف فيرحم من يشاء ويقسي من يشاء, ثم لماذا يقسي الله؟ أولا:الله لا يقسي أبدا,الله لا يصدر عنه شر أبدا, تقسي قلب الإنسان يصدر من الإنسان نفسه لنفسه, هو الذي يختار لنفسه أن يرفض صوت الله, أن يرفض الوصايا, أن يرفض النصائح وهو الذي يختار لنفسه هذا الرفض, ودور الله عندما يجد إنسانا يرفض باستمرار حتي صوت الضمير يتركه, ما معني يتركه؟يتخلي عنه عندما يجد إنسانا يريد أن يمشي في اتجاه معين, فلأن الله خلق الإنسان حرا فلا يأتي ضد إرادته, السيد المسيح عندما أراد أن يشفي المفلوج الذي له 38 سنة, حتي الشفاء قال له هل تريد أن تبرأ؟لابد أن يسأل السيد المسيح هذا السؤال احتراما لإرادته ولمشيئته, حتي الشفاء لايريد المسيح أن يفرضه علي الناس فرضا. فكيف يفرض الله علي الإسان أن يختار مصيره, ولماذا إذن يوم الدينونة ويوم الحساب والجزاء والثواب؟ إذا كان الله مسير الناس ويريد أن يجعلهم يسيرون كالحيوانات لماذا صنع الجزاء؟ ولماذا جعل الله للإنسان حسابا؟ لذلك الله أرسل أنبياءه وأرسل رسلا وأخيرا جاء بنفسه إلي العالم, فالمسألة بحرية الإنسان يقبل أو يرفض, لكن عندما إنسان يرفض باستمرار كل الوسائط المقدمة له حتي صوت الضمير, عملية الرفض المستمرة من جانب الإنسان تجعل الله يتركه لأنه لا يريد أن يأتي ضد إرادته, مادام هو اختار لنفسه ومصمم ومصر علي أنه يسير في طريق الضلال, فالله يتركه وعندما يتركه يقسي أكثر فأكثر, لماذا؟ لأن عناية الله تسند الإنسان المطيع الذي يحس بضعفه, وتتخلي عناية الله عن الإنسان الشرير بسبب شهواته ورغباته فيترك لذهن مرفوض ولقوة الشياطين فيتقسي, وهذا معني يقسي من يشاء, ليس بمعني أن الله هو الذي يجعله يتقسي, لا...ولكن لأن الله يتخلي عنه, وإذا تخلت عنه النعمة يزداد قسوة نظرا لأنه ينحدر بسرعة إلي أسوأ.
ولا تتخلي عناية الله عن الإنسان إلا إذا الإنسان رفض رفضا مستمرا صوت الله والوسائط المقدمة له, حينئذ الله لايريد أن يجبره علي شئ, فيتركه ويسلمه إلي ذهن مرفوض, هذا معني أن الله يرحم من يشاء ويقسي من يشاء.
